27-أبريل-2018

كيري جيمس مارشال/ أمريكا

لعنة الريش

في قرية العضلات الجبارة، أبت الجبال الجاثمة تصديق فحوى الاجتماع الطارئ الذي دعوا إليه شداد القوم. بحلول الربيع اخضرت البساتين الكثيرة وانتعش غدير الوديان بعد ذوبان ثلوج الجبال. والسماء الزرقاء العذراء عجت بسنفونية العصافير المرحة بفصلها الجميل، الذي طال انتظاره.

وقف رئيس القبيلة "نُوجَالْ" أمام الملأ بملابسه الفضفاضة، ومنسأته من خشب الزيتون في يده اليسرى تلامس المنصة الحجرية الملساء. جَمْعٌ غفير كان يرتقب كلمته، يتمتمون بينهم عن سبب الاستدعاء إلى الهيكل الطوبي للقرية. ألقى "نوجال" بكلمته بكل عجرفة وعناد لا مثيل لهما:

- أيها الجبابرة الأعزاء، لقد بلغني البارحة أمر يسيئُ إلى سمعة بسطتنا على القرى المجاورة. نحن الأقوياء في هذه المنطقة ولا ينازعنا أحد عن ذلك. ومكائد حسادنا وأعدائنا تقر بأن هنالك إلهًا أقوى منا. لا يُرى ولكنه موجود في كل مكان وزمان، كما يزعمون. ولن نقبل بذلك مهما كلفنا الثمن.

ثارت ثائرة الجبابرة وهتفوا بسقوط ذلك الإله. فتكلم أحدهم يدعى "إِنْقَرْ" بكل حمية:

- يجب أن نبطل ما يقال في القرى المعادية لجبروتنا الأزلي. أقترح تحدي هذا الإله المزعوم.

فرد "نوجال" مؤيدا إياه:

- أجل، أنت محق. أتوني بطيور السنونو في الحين.

بعد برهة من الزمن، عاد عشرة جبابرة، مدججين بالطيور المسكينة، مرتعدة من شدة الفزع.

"وداعًا أيها الربيع، يا مأتم الريش الطائر، الطاهر. فصبر جميل، يا رفاق الهدهد"، وكالة أخبار سيدنا سليمان (واس).

الكل ينتظر بشغف "عبقرية" رئيس القرية "نوجال". فقد جاء وقت الحسم والغطرسة:

- حسنًا، يا رعاع القرية. الآن، قوموا بنتف كل أرياش طيور السنونو وهم أحياء يغردون "تْوِيتَرْ" الآلام.

فامتثل الجميع لأوامر "نوجال"، وانتزعوا ريش السنونو البريئة على عجل، فتناثر كأوراق الخريف السابق لأوانه.

تلذذت عيون الجبابرة بالمنظر المجحف في مخلوقات لا حول وقوة لها. تعرت الأجنحة من ريشها بلا رحمة، تحت أنظار السماء التي بدأت تتلبد بالغيوم السوداء كردة فعل أولى. في انتظار ما سيأتي كعقاب لا مفر منه.

وعند انتهاء الظالمين من فعلتهم الشنيعة، نطق كبيرهم "نوجال" الذي علمهم التغطرس على خالق الكائنات الضعيفة.

ناول "إنقر" زعيمهم "نوجال" أحد طيور السنونو العارية، مبتسما بغرور بلا أفق. أمسك "نوجال" الطائر الصغير

بين يديه الكبيرتين المدنستين، رافعا إياهما إلى السماء الصاخبة، ثم قال بتعالٍ:

- الآن، اذهب أيها الطائر وحلق إن استطعت لبلوغ ربك واشتكِ إليه!

على وقع هذه الجريمة الفريدة من نوعها، افترق ذوو العضلات المفتولة، كل واحد إلى مآربه. هكذا ببساطة لا توصف، تاركًا طيور السنونو الجريحة في قلوبهم قبل أجنحتهم المبتورة. فهل من مستغيث؟

وفي اليوم الموالي، استيقظ الجميع على خبر مرض الطاعون الذي بدأ يفتك بسكان الجهة الشرقية أولًا. الموتى بالعشرات في كل عائلة. سكان الجهة الغربية للقرية هرولوا لدفن ذويهم لوقف زحف الوباء المفاجئ على طغيانهم.

رئيس القرية "نوجال" كان حاضرا، والعرق شكل جداول خيطية من جبينه متدحرجة إلى رجليه المرتعدتين من هول الواقعة الرهيبة. الموتى لكثرتهم دفنوا مثنى مثنى، رباع رباع، في قبور حفرت على عجل لاحتواء لعنة الطاعون. ولكن لا مفر من درس قاس على عقولهم الصغيرة، فأثناء طابور الدفن انتقلت عدوى المرض إلى المشيعين، الواحد تلو الآخر.

من يدفن من؟ رائحة الموت انتشرت كالنار في الهشيم. فهل من مزيد؟

لم يتمالك "نوجال" كوريغرافيا الموت الذي سخر من عضلات رجال قريته السائرة في درب الإبادة، فاتجه مطأطئ الرأس إلى الباحة التي مازالت تأوي طيور السنونو النحيلة. مازالت على قيد الحياة على ما يبدو. بدأ بحساب عددها.

مئة وعشرون طائرا يحتضرون! التفت وهو شارد الذهن، وإذا بالرجل الذي يدعى "إنقر"  يقف وراءه مصفر الوجه، منهار القوى.

- كم عدد موتانا يا "إنقر"؟

- مائتان وأربعون، يا زعيم القرية.

- أتدري يا "إنقر"، دفعنا ثمن نتف كل جناح! أليس معنى اسمك "الانقراض"؟

 

بَيْضٌ على قارعة الطريق السريع

ذات يوم ربيعي، عُدت بسيارتي والطريق السريع من مدينة الجسور المنتحرة، قسنطينة، قاصدًا جوهرة الساحل الغربي، مستغانم. نهضتُ باكرا لكي أقطع المئات من الكيلومترات الفاصلة بين المدينتين. من نافذة مركبتي، كنت بين الحين والأخرى أستمتع باخضرار براري قسنطينة وسهول مِيلَة وسطيف وبرج بوعريريج. لم أخذ معي في الصباح سوى قارورة ماء وحلويات "سِيرْتَا". أمضيتُ خمسة أيام في مدينة ماسينيسا وابن باديس ومالك حداد. لقيت محاضرتي حول "مقاومة الحاج أحمد باي للمستعمر الفرنسي في منطقة الشرق الجزائري" اهتمامًا من طرف طلبة الجامعة. عند وصولي في منتصف النهار إلى منطقة تابعة لولاية المْسِيلَة، لفت انتباهي أطفال يعرضون على قارعة الطريق بضاعتهم المتمثلة في البَيض الأبيض الريفي. تساءلتُ في نفسي عن خطر وقوفهم بجانبي الطريق بأجسامهم النحيفة. رهافتهم أكبر من قشور البيض الذي يبيعونه! غازات السيارات أرهقت أجسادهم، دون أن يَحُول ذلك من تثبيط عزيمتهم على كسب لقمة حلال. البؤسُ يدفع بالأولياء إلى إرغام ذريتهم على المخاطرة بحياتهم. النقود لا تعرف الأعراف. إذًا، وقَّفتُ محرك سيارتي ونزلت لمساعدة هؤلاء الأطفال. حييتُ الأطفال الخمسة، مبتسمين إلى شخصي. جُلهم جروا لكي أشتري منهم البيض البلدي. بيض مكنون في سلال من الخيزران! التفوا حولي وغمروني بإشعاع ضحكاتهم وحركاتهم. نزولًا عند إلحاحهم، اشتريت من كل واحد منهم عشرين بيضةً. مائة بالتمام! دفعت لهم النقود وزيادة، لتشجيعهم على الاسترزاق الطيب. وأعطيتهم أيضا نصف الحلويات التي اقتنيتها من قسنطينة. وفي النهاية صورتهم بهاتفي الخلوي كذكرى جميلة مع براعم وطني.

وصلت أخيرًا إلى مدينة مستغانم بعد العصر بعشر دقائق. وجدت زوجتي وأبنائي الخمسة في انتظاري على أحر من الشوق. وما أسعد لقاء الأهل والأعزاء من جديد! واستنشاق نسمات البحر السرمدي دوما..

 في المساء، أسرّت لي زوجتي أسماء:

- أتعرف يا واسيني، جارتنا أهدت لنا بمناسبة زواج ابنتها طبقَ حلويات وزنبيلَ بيض!

تعجبتُ ونهضتُ على عجل:

- ماذا؟ يا للصدفة! نسيتُ بيض الريف في السيارة! دقيقة وسأعود.

وعند فتح صندوق سيارتي الخلفي في المرآب، تفاجأتُ بتكسر كل البيض! ما معنى هذا؟ تساءلتُ في أغوار نفسي.

عدتُ إلى البيت يائسًا مما ألمّ بنصاعة بضاعة الفتية الخمسة، فوجدت زوجتي مرعوبة أمام شاشة التلفزيون.

- ما الأمر يا أسماء؟

- منذ قليل، وَرد خبر دهس شاحنة نصف مقطورة خمسة أطفال على قارعة الطريق في ضواحي المسيلة. فماتوا كلهم تحت العجلات المجنونة ودُهنت أشلاءهم بصفار البيض!

صُعقت مما سمعت وقلتُ بحسرة كبيرة:

-لا حول ولا قوة إلاّ بالله. يا له من يومٍ حزين كنت شاهدا عليه..

أبى الهُدهُد نقل بشاعة ما رأى في المسيلة، فطُرد من عمله في (واس) قبل دفن الضحايا الخمس، وبحضور الغربان الخمسة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في منفى أحلامك

شيخة الكار