بقي اليسار في سوريا لفترة زمنية طويلة طيفًا عريضًا، يُمثّل فئةً كبيرة من الناس. ألزم تعريفه ممارسة اختلفت وتفاوتت في ظل تجارب عديدة، حكمت آلياتها متغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية. وبعد انهيار النظم الاشتراكية، تلاشى المفهوم الذي صبغ اليسار لسنوات خلت، وكانت الصيغة الأداتية التي أظهرتها السلطات القائمة تتفسّخ بفعل التناقضات الداخلية لليسار. حرّكت المفاهيم الحداثية والمنظومة الأخلاقية، التي أخذت منحى جذريًا بعد الحرب الباردة، صراعًا أيديولوجيًا راكدًا في بنى اليسار العالمي والعربي تحديداً، وكان الوليد الجديد أكثر تشظيًا من سابقه الكلاسيكي، الذي ما لبث أن أصبح كاريكاتوريًا خاصةً في ارتباطه العضوي بأنظمة ناشئة عن حركات قومية.
ما لبث اليسار السوري أن أصبح كاريكاتوريًّا خاصة بعد ارتباطه العضوي بأنظمة ناشئة عن حركات قومية
في ظل تاريخ حافل بإخفاقات التوحيد، عاش اليسار السوري عبر تاريخه تشرذمًا كبيرًا، بفعل تناقضات لم يفلح في تجاوزها حتى الآن. وما ميّز سلوك اليسار في الماضي هو تهربه من النقد الذاتي، إذ كان يحمّل مسؤولية إخفاقاته إلى الأطراف الأخرى، وكان يبدو في موقع المستهدف من قبل حركات "رجعية" أو "سلطوية" تسعى إلى تقزيم حراكه الهادف، بينما أثبتت الحقائق التي تبينت لاحقاً، أنّ جزءًا كبيرًا من اليسار الجديد عربيًا حافظ على ارتباطه بالمنظومة الفكرية والبنى التحليلية لليسار التقليدي، بحيث لم تكن هذه الفئة وفية مع نفسها ومع جمهورها، إنما مع موروثها الحافل بالهزائم. لكن بعد موجة الربيع العربي ومع انتصار الإسلاميين في تونس ومصر، كان لا بد من السؤال "أين هو اليسار اليوم؟ وما هو موقعه من معركة إسقاط النظام؟".
طرح السؤال عن موقع اليسار السوري، تحديداً، يقود إلى الحديث عن الفرز الذي خلقته الانتفاضة الشعبية في 15 آذار/مارس 2011. يبدو واضحًا أنّ تيارًا محافظًا كبيرًا ارتضى أن يكون ملحقًا بسلطة "البعث" تحت مظلة الأحزاب التقدمية والوطنية. ولهذه الخيبة العظيمة أسباب، إذ أرست الشيوعية البكداشية فهمًا خاطئًا للمفهوم الطبقي، وألزمت مسار الأحزاب الشيوعية السورية لفترات طويلة بخيارات تساير السلطة، بحيث لم تكن الصيغة المطروحة في يسار بكداش سوى تلك المحصورة بطابعها "الوطني"، من دون الالتفات إلى خلق منحى فكري جديد يعيد إنتاج تعريف آخر لليسار ويفضي إلى ممارسة ناجحة في استقطاب الطبقات الشعبية.
ارتبط هذا اليسار بشكل فعلي بالسلطة منذ 1970، وكان يستند في مسعى تفكيكه للعلاقات القائمة وصراعه مع الإمبريالية إلى مفاهيم سوفييتية بحتة كـ"التطور اللارأسمالي" والسعي نحو "التوجه الاشتراكي". يجب أن لا ننسى طبعًا أنّ خالد بكداش دافع عن البرجوازية حينما تحققت الوحدة مع مصر سنة 1958، وكانت الحجة آنذاك أنّ البرجوازية الوطنية ستحقق استقلالًا واضح المعالم. وفقاً لبكداش فإنّ دعم الرأسمالية سيفضي حتمًا إلى تدعيم بنى الديمقراطية. كنا نتحدث عن يسار تقليدي، ثم يسار حكومي، فآخر جذري. بمعنى آخر خلقت البيئة الكاريكاتورية التي أسسها حزب البعث تيارات يسارية متنوعة كانت في معظمها سندًا وظيفيًا للقيادة "الحكيمة". وكانت في حالاتها تصويرًا للموقف "الوطني" الذي تنتهجه تلك القيادة.
هكذا، حصرت تلك الأحزاب مواقفها في القضية الوطنية ومعركة التصدي للإمبريالية والمعسكر الغربي وما إلى ذلك من نص شعاراتيّ ممنهج، حتى اختنقت مواقفها وبهتت، وكان الموقف العام في أحسن أحواله ترجمة لخطاب حزب البعث الكارثي. على الطرف النقيض، كان هنالك يسار يناضل من أجل الحرية، لم يهادن في ما يتعلّق بالمسألة الديمقراطية وكان منطلق ذلك التكوين انشقاق في الحزب الشيوعي رشح عنه المكتب السياسي، الذي اتخذ موقفا حاسمًا من نظام الأسد الأب إبان التدخل العسكري في لبنان في عام 1976، ويمكن للإنصاف أن نضيف إليه حزب العمل الشيوعي أو الرابطة، التي نشطت في ثمانينيات القرن الماضي، وكان عبد العزيز الخيّر أحد أبرز وجوهها النضالية. هذا الفرز العميق بين صفوف اليساريين السوريين، أدى إلى استحالة تحقيق الوحدة في ظل وجود خطاب مؤيد للسلطة الحاكمة في طياته، تحوّل أصحابه من يساريين إلى مدافعين عن مافيا طفيلية وكتل نهّابة قضت على كل فرص تحقيق النمو الاقتصادي وأسست لحقبة من الفراغ السياسي، وإن كانت غلّفت هذا التحول بتوجّه وطني جعل من القضية الفلسطينية ودعم الحركات التحررية "شمّاعة" في كل محفل وعلى كل منبر. سرعان ما سقط كل هذا أيضاً واتضح.
لسنوات طويلة خلت سيطرت العقلية الإقصائية على بنى اليسار وكان الشيوعي السوريّ يمجّد حالات زعاماتية أسست لفكر شمولي
وإذ نتحدث عن تغيرات جذرية، لا بد من التوقف عند اندلاع الانتفاضة الشعبية وإنطلاق الربيع العربي. تصاعد نفوذ الإسلاميين وتنامي حجمهم نتيجة ذراع اجتماعية محكمة، أو تأسيس قويم، الأمر الذي مكّنهم من بسط صراع أيديولوجي عبر خطاب الحق والباطل، الخير والشر. كان لا بدّ لليسار أن يحدّد موقعه في هذا الصراع. هل يجوز أن يبقى اليسار محايدًا؟ هل يسوّغ اليسار وقوفه مع طبقة مافيوية حاكمة ويبرّر عدم مشاركته في الثورة بفعل تنامي النفوذ الإسلامي أو بحجة الخوف الأقلوي؟ هل أصبحت المسألة الوطنية محصورة بعائلة الأسد وحكم البعث؟ بدا واضحًا منذ البداية تركيز مثقفي النخبة السورية على الميل الثقافوي للثورة السورية، وربطها بمسلمات الحداثة الفكرية بحيث أصبحت قضية التخلف والتطور هي القرينة التي يستند إليها هؤلاء في مقياسهم لمشروعية الثورة وعدمها. هكذا أيضًا، أهمل الجانب الاقتصادي - الاجتماعي في عملية مواجهة السلطة القائمة.
غدا كل صوت يهتف ضد النظام، إنما يهتف للحرية من استبداد سياسي جثم على صدور السوريين لأربعة عقود، ولم يكن اليسار معنيًا منذ البداية، عمومًا، في تقنين مسألة الصراع الطبقي وتلزيمه مسار الثورة وهذا إن دلّ على شيء فهو يدلّ على مشكلة كبيرة في الوعي الماركسي. والحال أن يسارًا لا يستند إلى وعي الواقع وأدواته في إطار تحليل علميّ سليم، ويلجأ إلى "النص" أو "المرجع" لإسقاط صيغة ثورية معينة على الحالة السورية من دون مطابقتها مع المعاش الواقعي، هو يسار تائه لا يقدر على تهديم البنى المتداخلة للطبقة الحاكمة ولا يستطيع حتى توجيه خطاب عقلاني متصالح مع البيئة السورية.
لسنوات طويلة خلت، سيطرت العقلية الإقصائية على بنى اليسار، وكان الشيوعي السوريّ يمجّد حالات زعاماتية أسست لفكر شمولي، في الظاهر كان وطنيًا يدعم تحرير الأرض ويتصدى للإمبريالية، بينما في الباطن هو متجمّد، لا يسعى للتطور والإنتاج، ولا يختلف عن تلك الجماعات المنغلقة التي تطالب بالحرية في العلن وتقدّس زعاماتها في الخفاء. اليوم، يتوجب على اليسار الحديث، خاصة بعد موجة الربيع العربي أن يعي أن آخر، مختلفاً عنه في الإيديولوجيا والمنطق والتوجه العام، يسعى إلى ما يسعى هو إليه ويعمل من أجل ما افتقده هذا اليسار لفترات طويلة. وعليه فإنّ كل عمل ينحى نحو الإقصاء سيعيد حشر اليسار في معاركه الداخلية.
ثبت اليوم أنّ برنامجا يدافع عن السلطة الحاكمة، ولو حمله يساريون، هو برنامج "يمين" يستند إلى قيم ليبرالية في الحداثة والانفتاح والخصخصة
ليس المطلوب أبدُا مهادنة الخطاب الرجعي، وليس مطلوبًا من اليسار الجديد أن يكون مرتهنًا لرجعيات ارتبطت طوعًا بالإمبريالية، ما هو مطلوب فهم أعمق وأفضل للعلاقات القائمة في منطق الصراع بين سلطة مافيوية حاكمة وطبقات شعبية مهمّشة. قد يقول قائل هنا أنّ موضة "اليسار" انتهت إلى غير رجعة، لكن الواقع اليوم أثبت أنّ البرنامج الذي يدافع عن السلطة الحاكمة، ولو حمله يساريون، هو برنامج "يمين" وهو برنامج مستند إلى قيم ليبرالية في الحداثة والانفتاح والخصخصة. يجب أن تعاد صياغة مفهوم واضح لليسار، يسعى أولًا وأخيرًا إلى الدفاع عن الإنسان. يسار يسعى وفق الظروف الحالية إلى تحقيق مصالح الطبقات الفقيرة في إطار استقلال حقيقي. كذلك الأمر، اليسار الحلم ليس يسارًا للشعارات والخطب والمواقف، وليس سوفييتيًا كاريكاتوريًا يرى في روسيا بوتين صوابًا، أو دفاعًا عن اشتراكية "البعث" ضد الإمبريالية، أو عن مقاومات لم تكترث إلى تطلعات الشعوب في التحرر وحق تقرير المصير. اليسار الحلم ليس رجعيًا أو مرتهنًا لأي رجعيةٍ كانت، ويجب أن لا يهادن في مسألة تحرير الأرض كما الإنسان. ربما، في سوريا وحولها، نحتاج إلى يسار إنساني، أكثر من أي وقتٍ مضى.