08-يونيو-2017

لقطة من فيلم "بوسي كات" إنتاج عام 2013

بدافع من متابعة متفرقة لعدد من المسلسلات الدرامية المصرية المعروضة في الموسم الرمضاني الحالي، وصلت إلى استنتاج يعفيني من متابعة أغلبها في ما تبقى من حلقات.

الأمر ليس متعلقًا باختيارات فنية أو ذوق شخصي في المقام الاول، بل بقدرة تلك الأعمال الدرامية على جعل المتفرج "يصدّقها" ويعتقد بخروجها من الواقع المصري بالأساس.

السينما وإن بدأت وظيفتها ترفيهية، ففقد كانت انطلاقتها على المستوى الأوسع جماهيريًا قادمة من تماسها مع جملة من القضايا الإنسانية

فما بين أعمال مقتبسة بردءاة عن أصول أجنبية، أغلبها أمريكية بالطبع، وأعمال أخرى تحاول محاكاة الأولى، وأعمال ثالثة تقف عاجزة عن فرض أسلوبها والاكتفاء بملء حلقاتها كيفما اتفق بإيفيهات بائتة ومواقف مبتذلة وسيناريوهات متهافتة؛ يكاد المتفرج يلقى مشقات ليجد عملًا دراميًا جديرًا بمشاهدته ويعتقد أنه "يشبهه"، وسط طوفان متشابه من الأعمال التي يقف وراءها منطق إعلاني يستهدف استثمار الفراغ الفادح في حياة قطاعات كبيرة من المصريين، بعد 6 سنوات من الطيف العابر لحلم التغيير المجهَض على أيدي منتفعي الثورة المضادة.

اقرأ/ي أيضًا: أفضل 14 أداء تمثيليًا في تاريخ السينما (2-2)

أولئك الأخيرون من محترفي الإجهاض السياسي يماثلون قائدي الهجمة المرتدة التي نشهدها حاليًا على المستوي الإبداعي المصري. فبعد حالة من السيولة الفائقة في العام الأول للثورة في 2011 شهدنا فيها محاولات متنوعة للتفكير خارج الصندوق واللعب في مناطق جديدة وغير آمنة" على المستويين الفني والسياسي، وصلنا الآن إلى متابعة الحياة بالقصور الذاتي، بمعنى تفريغ –أو إفراغ- كل المحاولات السابقة لوعودها بهواء جديد ومنظور مختلف لرؤية الأشياء واكتفائها باستحلاب نفسها من غير إدراك بعملية الإهدار الذاتي المفضي حتمًا إلى إعلان موتها من تلقاء نفسها.

ما علاقة ذلك بالسينما والأفلام؟ هي علاقة لا تحتاج إلى تفسير أو تأكيد، فالكل مترابط في عصر الرداءة التي تعتبر العمل الدرامي أوالسينمائي منتجًا استهلاكيًا غايته تسويق نفسه وحصد أكبر قدر ممكن من الأرباح لصانعيه.

ومثلما تطالعنا الآن شركات الإنتاج التلفزيوني والإعلاني بأخبار وإحصائيات عن نسب المشاهدة والدقائق الإعلانية في برامجها ومسلسلاتها، كانت تفعل مثلها شركات الإنتاج السينمائي ولكن على طريقتها الخاصة بإبراز الأخبار عن إيرادات الأفلام ومبيعاتها للفضائيات، في تأكيد ذاتي على منطق رجال الأعمال الذي يتعامل به السادة المنتجون.

هو "بزنس" لا يشغله الحديث عن الواقع المجتمعي أو مشكلاته وغير ذلك من "وجع دماغ" سيؤثر سلبًا على الأرباح المنتظرة وماكينة الإنتاج الآمن والمضمون. والأنكى من كل ذلك أن تجد مَن يدعي بأن السينما المصرية الحالية تعكس الواقع وتعبر عن مشكلات المواطن المصري، وهو ادعاء كاذب وباطل لن يجد في واقع الأحوال سوى ما يثبت خطأه، ويقودنا إلى سؤال بسيط: هل السينما المصرية أمينة على واقعها؟

في مصر التي لم يجد شعبها مَن يحنو عليه، تبدو السينما قد تخلت عن القيام بدور اليد الحانية التي تخفف من مآسي العيش  اليومي

السينما وإن بدأت وظيفتها كأداة ترفيهية، فقد كانت انطلاقتها على المستوى الأوسع جماهيريًا قادمة من تماسها مع جملة من القضايا الإنسانية بفضل سينمائيين آمنوا بقدرة ذلك الوسيط وأهميته في دعم النقاش والبحث المشترك عن حياة أفضل.

في مصر، التي لم يجد شعبها مَن يحنو عليه سياسيًا واقتصاديًا، تبدو السينما هي الأخرى قد تخلت عن القيام بدور اليد الحانية التي تخفف من مآسي العيش اليومي في بلد منهك بأحلامه المجهضة واستعصاء تحققها في المستقبل القريب.

اقرأ/ي أيضًا: هل كان 2016 عام السينما اللبنانية؟ أبرز 8 أفلام تثبت ذلك

الجمهور لن يتوقف عن ارتياد صالات السينما بالطبع، ولكنه ينتظر في المقابل مردودًا يعوّضه عما يقتطعه من قوته ليساعد به الصناعة العريقة، بدلًا مما تقدمه من فن متواضع لا يحترم إدراكه. بعيدًا عن استثناءات قليلة: فيلم وراء فيلم، وموسم وراء موسم، ولا يكاد المتفرج يلمح على الشاشة شخصية سينمائية تشبهه، أو سيناريو لحكاية حقيقية من حكايات الواقع الكثيرة التي يختبرها هو وغيره من سكان تلك البقعة من الأرض.

في المقابل، هو موعود بشخصيات وثيمات وحكايات قادمة من عالم آخر لا يعرفه ولا يشبهه، حكايات قنوات الأفلام الأمريكية والدراما التركية واللاتينية.

"لف وارجع تاني"

قبل 30 عامًا تقريبًا، ظهر في مصر عدد من السينمائيين دفقوا روحًا جديدة في أوصال الجثة السينمائية المصرية، جيل شاب استيقظت طفولته على هزيمة حزيران/يونيو 1967 وصعد محملًا بأحلام وأثقال وانكسارات وانتصارات على المستويين الاجتماعي، وبدا على الفور من أفلامهم الأولى امتلاكهم لأساليب تخصهم وملامح تشبه القطاعات الوسطى والدنيا من المجتمع المصري، إنهم صانعو ما سيطلق عليه لاحقًا "موجة الواقعية الجديدة في الثمانينات".

أسماء مثل عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد ورأفت الميهي وبشير الديك وماهر عواد ومحمد شبل، أحدثت ثورة سردية ورسمت بأفلامها مسارًا فريدًا مهّد الطريق للقادمين الجدد مثل يسري نصرالله ومحمد كامل القليوبي ورضوان الكاشف وأسامة فوزي وعاطف حتاتة.

الجمهور لن يتوقف عن ارتياد صالات السينما لكنه ينتظر في المقابل مردودًا يعوّضه عما يقتطعه من قوته ليساعد به الصناعة العريقة

ولأن الأشياء الجميلة والجادة لا تدوم طويلًا، فقد انقطع ذلك المسار مع دخول الألفية الجديدة، ولكن بداياته يمكن الرجوع إليها في منتصف التسعينات بعد حرب الخليج، حين عرفت السينما المصرية أزمة جديدة من نوعها أعقبت سنوات "المليطة السينمائية" وسينما المقاولات: نقص الإنتاج السينمائي.

فجأة، انخفض عدد الأفلام المنتجة من 91 و81 فيلمًا إلى 18 و19 فيلمًا، ثم صارت المغامرات الإنتاجية والسينمائية شحيحة ونادرة ولا تحدث سوى كل عدة سنوات، وسط تصاعد أصوات تقول بأن سيطرة تلك النوعية من الأفلام هي السبب في انصراف الجمهور المصري عن الأفلام المحلية، لما تحتويه من نقد و"نكد" ومصارحة إلى درجة التعرية وما لا يجوز أن يقال أو يصوّر في التعامل مع الواقع المصري، إنها أفلام "الواقع القذر"، بحسب تعبير مخرج درجة ثانية مثل حسام الدين مصطفى.

اقرأ/ي أيضًا: 19 فيلمًا ننتظر عرضها بالسينمات في النصف الثاني من 2017

كان مخرجو السينما المصريون الرومانتيكيون الأوائل يرون أن الجمهور يجب أن يشاهد قصورًا ومنازل خلابة بعيدة عن واقعه وأحداثًا لاهبة -أو لاهية- لا تمت بصلة إلى هذا الواقع، وإلا فلماذا عندهم يذهب –أو يهرب- الجمهور إلى عالم الأطياف الرحيب وخيال "الخيّالة"؟

وكان أحد وزارء الثقافة في مصر في عصر السادات يقول إن السينما المطلوبة للمشاهد المصري هي سينما هضم الطعام، التي تساعد على الهضم بالتسلية المحضة ولا تشغل عقله ولا ترهقه بالتفكير في مسائل ومصائر.

والآن، تظهر نتائج تلك الرؤية الضحلة والمدمرة للسينما، والتي كانت موجودة دائمًا ونظن أنها ستظل موجودة، ولكنها كأغلب الأفكار البغيضة لا ترى في العالم مكانًا لغيرها من الأفكار ولا تسمح لمن خارجها بمزاحمتها.

أصبح البحث عن سينما مصرية طازجة أمرًا شاقًا، دونه حواجز رقابية وبيروقراطية وتمويلية وذوقية، وصارت الفرجة على إنتاجات السينما العالمية مسار تحسر لسينمائيين مصريين على ما تقدمه السينما الوطنية لجمهورها من هراء محض.

أفكار بسيطة وكبيرة

كثيرًا ما يربط البعض بين ضعف مستوى الأفلام المصرية خلال السنوات الأخيرة وأسطورة أطلقها المنتجون ورددها بعض النقاد بلا مراجعة أو تحليل، وتقول الأسطورة إن السينما المصرية تحتاج إلى الإمكانيات المادية والميزانيات الضخمة لتصنع أفلامًا جيدة.

أصبح البحث عن سينما مصرية طازجة أمرًا شاقًا، دونه حواجز رقابية وبيروقراطية وتمويلية وذوقية

ولا أعرف على أي أساس يعتمد هذا المنطق، فغالبًا لن تنوي شركة إنتاج مصرية صناعة فيلم مأخوذ عن كوميكس ينافس إنتاجات "ستديو غيبلي" و"دي سي" و"مارفل"، ولا أعتقد أن أحدًا طلب منهم إنجاز فيلم حربي تاريخي عن معارك الثورة العرابية ضد الاحتلال الإنجليزي، وبالتأكيد لا ينتظر أي مشاهد من المنتجين المصريين تمويل فيلم عن معارك الفراعنة القدامى أو تقديم فيلم "حقيقي" عن الحروب التي خاضتها مصر ضد إسرائيل، أو حتى فيلم مستوحى من "ألف ليلة وليلة".

لا شيء من هذا يحدث، ولا أحد يطلبه أصلًا، لعلمه باستحالته مقدمًا. لماذا؟ لأن المنتجين المصريين يفكرون أفكارًا صغيرة لا تنتج أفلامًا كبيرة.

نظرة سريعة على قوائم الأفلام التي تحتفي بها المهرجانات السينمائية المختلفة ويخلّدها المشاهدون بعد سنوات طويلة من إنتاجها، ستكون كافية لتأكيد ابتعاد السينما عن المسار الصحيح، فالأفلام الجيدة لا تحتاج مبالغ ضخمة ولا ترتيبات خاصة بأجور النجوم وأسمائهم، والأفكار المناسبة هي التي تصنع الأفلام الناجحة، والدراما ليست فقط ضحكًا وتسلية وإفيهات.

فيلم مثل "مونلايت"، وهو فيلم أمريكي فاز بأوسكار أفضل فيلم لعام 2017، يقدّم قصة عادية عن شخص مختلف جنسيًا عن أقرانه يعيش في بيئة مدينية مضطربة، وعبر تتبعه في مراحله العمرية المختلفة يوثّق الفيلم رحلة كفاح شخصية لفرد تحوّل من الإحساس المهلك بالنبذ والاستبعاد إلى رجل قادر على التحكم بحياته، وفي الأثناء تظهر الصورة الكبيرة للمجتمع الأمريكي والنضالات اليومية للأقليات العرقية والجنسية من أجل التمتع بحقوقها الشخصية.

اقرأ/ي أيضًا: مهرجان سينما فلسطين في باريس.. وجهات نظر حول أفلام 1967

فيلم أمريكي آخر كان في سباق الأوسكار هو "مانشستر على البحر"، يقدّم نموذجًا إنسانيًا مؤثرًا من خلال محنة بطله (فاز الممثل كيسي أفليك بجائزة الأوسكار عن دوره في الفيلم)، وهو شاب سيئ السلوك يعيش وحيدًا ويفقد رغبته في الحياة، هادئ وصموت في أداء عمله ولكنه بلا هدف تقريبًا، يسكنه حزن عميق لإحساسه بمسؤوليته عن حريق بالخطأ فقد فيه أبناءه الصغار، وهو فيلم رغم فكرته المغرية بميلودراما فاقعة تتردد في خلفيتها أنغام الربابة والكمان الحزينة، يقدّم الحزن والاكتئاب بصورة هادئة بعيدة عن الشكل الصارخ وبتقنيات فنية ملائمة، ما يستدعي تعاطف الجمهور واحتفاء النقاد.

صارت الفرجة على إنتاجات السينما العالمية مسار تحسر لسينمائيين مصريين على ما تقدمه السينما الوطنية لجمهورها من هراء محض

مثال آخر للأفلام الناجحة والبسيطة يمكن أن نجده في الفيلم البريطاني "أنا دانيال بليك" الفائز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي العام الماضي، حيث يقدم قدَّم المخرج كين لوتش أحد أجمل أعماله وأكثرها تأثيرًا، بجعل مشاهدي الفيلم يتماهون مع أزمة بطله، الذي يمثّل نموذجًا للإنسان العادي البسيط المسحوق بفعل اختلال النظام الاقتصادي المسيطر، من خلال حكاية نجار في التاسعة والخمسين من العمر، يتعرض إلى أزمة قلبية تجبره على ترك عمله، فيتحوَّل إلى تلقي مساعدة الرعاية الاجتماعية، لكنه يواجه التعنت البيروقراطي ويتيه في دوامات الإجراءات إلى أن يموت بأزمة قلبية.

هكذا، وبمثل تلك الأفكار البسيطة "الواقعية" يمكن أن نجد شخصيات مصرية "من لحم ودم" في أفلام المواسم والأعياد، بعيدًا عن كليشيهات قصص الحب المكررة والدراما الشعبية الزائفة وكل ذلك الهراء الذي يحاولون إقناعنا أنه "سينما".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفتوات في السينما المصرية "وحوار بالفيديو مع الناقدة الفنية ناهد صلاح"

صوفيا كوبولا: فخورة بأبي ولكني أمتلك طريقتي الخاصة في العمل