13-أكتوبر-2016

بجاية ثمرة لعناق البحر والجبل (فيسبوك)

ليست بجاية مدينة عادية في الفضاء الجزائري والمتوسطي، فهي ثمرة لملامح هذا المتوسط كله، اجتمعت وانصهرت فيها، بعيدًا عن عقد القوة والضعف والعِرق واللغة والدين والمكان والإنسان، ولعلّ هذا ما جعلها تبقى من المدن الجزائرية القليلة، التي لم تتراجع عن قيم التسامح والانفتاح.

بجاية هي ثمرة لعناق البحر والجبل، بحيث يمنح أحدُهما للآخر سحرًا خاصًا

كن حاملًا للفكر والرغبة والميل والانتماء الديني والمذهبي والسياسي الذي تشاء، فستبدو طبيعيًا في بجاية، أو "الناصرية" في عهد الحمّاديين أو "بوجي" في عهد الفرنسيين أو "بقايث" لدى الأمازيغ، الذين يشكلون أغلبية سكانها، ما لم تخدش القيم الإنسانية المتعارف عليها.

ولكم كانت دهشة المسرحيين والكتاب العرب، الذين شاركوا في "مهرجان الجزائر الدولي للمسرح" كبيرة، حين لاحظوا ظاهرة قالوا إنها "نادرة الوقوع في المدن العربية المختلفة"، وهي أن باب المسجد يقابل باب الحانة، من غير أن يشوّش روادُ أحدهما على الآخر، حتى أثناء صلاة الجمعة.

اقرأ/ي أيضًا: قسنطينة.. مدينة بألف وجه

طبيعيًا، بجاية هي ثمرة لعناق البحر والجبل، بحيث يمنح أحدُهما للآخر سحرًا خاصًا، فالناظر إلى البحر من قمة "لالة قورايا"، "الولية الصالحة"، التي يتبرّك بها البجاويون، هكذا يُسمى سكان المدينة، يراه بعين مختلفة تمامًا، وكذلك الاختلاف بالنسبة إلى من ينظر إلى قمة الجبل انطلاقًا من الشاطئ، الذي يستقطب ملايين الجزائريين خلال الصيف.

هذه الروح الخاصة، طبيعيًا وإنسانيًا، مكّنت المدينة، التي يعني اسمُها "الشمعة"، من استقطاب شخصيات فكرية وأدبية وفنية، للإقامة فيها عبر التاريخ. نذكر منهم عبد الرحمن بن خلدون وأبا مدين شعيب وليوناردو دافينشي، والكاتب رئيس البرتغال مانويل تكسيرا خوميز، 1860-1941.

غرفة الرئيس البرتغالي في بجاية.. أرق التاريخ

لأسباب يُقال إنها تتعلق بشعوره بخيانة مقرّبيه في الحزب الديمقراطي، قرّر مانويل تكسيرا خوميز عام 1931 تقديم استقالته من رئاسة البرتغال، وركوب يخت توجه به إلى مدينة بجاية، 200 كيلومترًا شرق الجزائر العاصمة. كان ينوي أن يقيم فيها يومين، ثم مدد إقامته شهرين، ثم قرّر أن يستقر فيها نهائيًا، إلى أن مات فيها عام 1941.

لجأ الرئيس البرتغالي الأسبق مانويل تكسيرا خوميز إلى غرفة في فندق ببجاية صارت فيما بعد سكنه الخاص وأين تفجرت موهبة الكتابة لديه

حجز الرئيس الذي تفرّغ للكتابة، غرفة في فندق "النجمة" بساحة "غيدون"، التي باتت تعرف بعد الاستقلال الوطني بـ"ساحة أول نوفمبر"، لم يغادرها أبدًا، ما عدا في رحلات قليلة قادته إلى مناطقَ جزائرية، منها رحلته إلى صحراء "جانت"، وبقيت تحمل اسمَه وتضمّ بعض أغراضه الشخصية إلى غاية اليوم.

اقرأ/ي أيضًا: ميلة الجزائرية..مملكة الجنان والمياه تبحث عن مجدها

في  كانون الأول/ديسمبر 2015، قام المخرج البرتغالي باولو دي منترو بتصوير لقطات، في هذه الغرفة، من فيلمه "أعدك"، إنتاج جزائري وبرتغالي مشترك، يحاكي فيه حياة الرئيس الذي نفى نفسَه، مركزًا على السنوات العشر التي قضاها في بجاية، بصفتها الفترة التي شهدت عزلته وتفجير موهبة الكتابة لديه، إذ لا تزال نسخ من كتبه موضوعة فوق طاولته في فندق "النجمة".

وقامت الرئاسة البرتغالية عام 2006 بالتنسيق مع السلطات الجزائرية، بنصب تمثال نصفي لخوميز، في ساحة قريبة من الفندق، بحضور أفراد من عائلته، والذين أثاروا استياء صاحب الفندق التاريخي بأخذهم بعض أغراض الرئيس مثل قبعته. يقول: "لم تكن لدينا سلطة لمنعهم، وكان حسهم العائلي أقوى من حسهم التاريخي، ذلك أن غرفته أصبحت متحفًا صغيرًا، ويُفترض أن أغراضه تبقى ملكًا لزواره".

تستقطب هذه الغرفة التاريخية الفنانين والسياسيين والإعلاميين والكتّاب، ليقضوا فيها أوقاتًا مهربة من تاريخ خاص، رغم بساطتها وقدم أثاثها، طاولة وكرسي وسرير حديدي ومغسلة لليدين في الجدار وأخرى للرجلين على الأرض، أما الحمّام فمشترك بين نزلاء الطابق، غير أن الإطلالة من نافذتها الكبيرة، على "ساحة غيدون" الضاجة بالناس، وعلى البحر والميناء، تمنح صاحبها إحساسًا عميقًا بالراحة والاسترخاء.

تدخلنا الشاعرة والإعلامية فاطمة بن شعلال إلى هذه العوالم بالقول: "حظيت بزيارة الغرفة، كانت قبعته مع صوره وبعض رواياته لا تزال فيها، واستغربتُ كيف لكاتب كان رئيسًا أن يختار مسارًا مختلفًا لحياته، فيأوي إلى غرفة متواضعة جدًا، لكنني فهمت أن الأماكن كلها تصبح سواء، حين يخونك الوطن والمقربون، حيث يصبح المطلوب أن تلتقي ذاتَك وتغوص فيها".

يخضع الفندق، هذه الأيام، لترميمات جذرية، ويخشى البجاويون أن تتغلب سلطة التجارة على سلطة التاريخ، فيتخلى أصحابه عن الغرفة السحرية. يقول رمطان: "ستفقد المدينة شطرًا من تاريخها، إذا حدث ذلك، وأتمنى أن يحميها الحس الحضاري لصاحب الفندق من الزوال".

مدخل نزل النجمة في بجاية وهو الذي احتضن الرئيس البرتغالي

اقرأ/ي أيضًا:

تمثال الأمير عبد القادر.. ماذا بقي من الرمز؟

جزائريو كاليدونيا الجديدة.. حنين من وراء البحار