28-نوفمبر-2019

بثينة العيسى (تويتر)

 

كيف تطرح سؤالًا صعبًا بمنتهى البساطة والعذوبة فتستحث خيال الأطفال ووجدانهم على التفكير به؟ كيف تتلمس طريقك معهم للإجابة عليه، فتصل تارةً، وتارة أخرى تتركه معلقًا لعلهم يجدون إجابة له يومًا ما؟ هذا ما ستعرفه عندما تقرأ مساهمة الأديبة والروائية بثينة العيسى في أدب الأطفال.

تمتلئ كتابات بثينة العيسى للأطفال بالكثير من الأسئلة الفلسفية العميقة التي لا تخشى طرحها عليهم

تمتلئ كتابات بثينة للأطفال بالكثير من الأسئلة الفلسفية العميقة التي لا تخشى طرحها عليهم، تمتلك جرأة تدفعها للغوص عميقًا في نفوسهم، والذهاب إلى أكثر المناطق ألمًا وحزنًا، تكشفها ثم تعود بها إلى السطح ملقية بأسئلتها أمام الجميع في لغة سلسة وعذبة.

اقرأ/ي أيضًا: "الحقيقة والكتابة" لبثينة العيسى.. الدليل إلى غابة السرد

جرأة بثينة العيسى تبدو واضحة في عدم خشيتها من كل هذا الشجن الذي يملأ جنبات كتابين موجهين بالأساس للأطفال، فهي لا تتعامل معهم على أنهم كائنات هشة تستحق الشفقة غير قادرة على احتمال واستيعاب مفاهيم كالحزن والشجن والفقد، أو الخوف عليهم من التفكير في ماهية الشوق والغياب والمحبة المؤلمة. تحترم الكاتبة عقل الأطفال ولا تتعالى عليهم كراشدة تمارس دور الوصاية في تجنيبهم مواجهة مثل هذه المشاعر والعواطف. تفكر معهم كي يدركوا حقيقة تلك المشاعر التي يواجهونها، فيصبح البوح بها والتعبير عنها أسهل ومن ثم التعامل معها وإدارتها فيما بعد.

من رسومات "ماذا نفعل عندما نشتاق؟"

تطرح الكاتبة على الأطفال أسئلة نقترب منها نحن الكبار بحذر، وربما لا نجد لها أجوبة في كثير من الأحيان لأننا لم نعتد على مواجهتها، لأنها تثق في ذكاء الأطفال العاطفي وإنسانيتهم التي تستطيع فهم وإدراك كل المعاني السابقة، بالإضافة إلى الأسئلة المعقدة التي اهتمت بتقديمها.

في كتابيها الموجهين للأطفال "أسفل الشجرة أعلى التلة" و"ماذا نفعل عندما نشتاق؟"، طرحت العيسى العديد من الأسئلة الكبيرة والصعبة في آن معًا، ليس على الأطفال فحسب، بل على الكبار أيضًا.

تتحدث في كتابها الأول "أسفل الشجرة أعلى التلة" (دار أروى العربية، 2016) عن العلاقات الإنسانية ومساراتها المعقدة، عن المحبة والاختلاف والتسامح والقبول، والحلول المبدعة. من أول لحظة تضع أمام أعيننا التناقض والاختلاف كحاجز لإكمال المحبة واستمراريتها، تطرح المفاهيم والطبائع المتناقضة وتمزجها بالحكاية بدءًا من العنوان، ووصولًا إلى النهاية.

"أسفل الشجرة أعلى التلة" مكانان مختلفان وبعيدان كل البعد عن بعضهما البعض، أما بطلتا الحكاية فهما، مهرة صغيرة تحب الركض، وسلحفاة تحب الجلوس والتأمل. صديقتان مختلفتان تعرقل اختلافاتهما استمرار صداقتهما وتهدد بانقطاع المحبة الموصولة بينهما، ومن هنا بالتحديد تتوالى الأسئلة: هل على المحب أن يتغير كي يحافظ على وجود المحبوب في حياته؟ هل من العدل أن نختار بين أنفسنا وبين من نحب؟ هل يكون الفراق ثمنًا للاختلاف؟ لماذا المحبة تؤلمنا؟

تأخذنا الحكاية إلى اللحظة التي تتشابك فيها كل العوامل المؤدية لانتهاء علاقة الصداقة بين السلحفاة والمهرة. وفي تلك اللحظة بالذات يكشف لهما الحزن الناتج عن الفقد وعدم القدرة على تخيل الفراق أن صداقتهما لن تنتهي، بل يدفعهما للبحث عن حلول مبدعة، "فالمحبة ليست أمرًا تمنع حدوثه إنما أمر تحارب لأجله" كما تقول الحكاية. لا بد إذًا من وجود حلول لاستمرار المحبة، وفيما تشير بثينة إلى قبول الاختلاف في حكايتنا هذه كأحد الحلول، تقدم في المقابل الغناء كحل سحري للصديقتين، فغناء إحداهما لن تخطئه أذن وروح الأخرى وسيهديها للعودة لصديقتها.

اكتملت عذوبة الكتابة برسومات في غاية الجمال للفنانة ليال إدريس، عبرت عن الحالات العاطفية المختلفة التي انتابت بطلتي الحكاية، فانتقلت من فرح ولهفة عبّرت عنها الألوان المبهجة للرسومات، إلى حزن ويأس طغت عليه الألوان القاتمة.

غلاف "أسفل الشجرة.. أعلى التلة"

لا تكتفي الكاتبة بالأسئلة السابقة، بل تأخذنا مرة أخرى إلى فك شفرة أحاسيس جديدة، تقول السلحفاة لصديقتها المهرة "إن احتجت لرؤيتي غني ستأتيني الريح بصوتك"، فتستدعي سؤالًا لم تطرحه بثينة صراحة عن الغياب والاشتياق، وستعاود طرح السؤال نفسه في كتابها الثاني "ماذا نفعل عندما نشتاق" (دار أروى العربية، 2017) الذي تطرح فيه سؤالاً جديداً لا تجد له إجابة شافية، لتصل في النهاية إلى أنه "مشكلة.. مشكلة جميلة جدًا".

تحكي القصة عن صديقين يفترقان بسفر أحدهما إلى بلاد بعيدة جدًا، فتستحضر سؤال السفر والفراق وما يتبعهما من الحنين والشوق. يضع الصديقان القواعد التي يحاولان من خلالها استحضار الغائب أو الحزن على فراقه، لا بأس أن نبكي، لا بأس أن نظرنا إلى صور بعضنا البعض، لكن هذه القواعد لا تنجح في تعويض الفقد وتخفيف ألم الفراق. يظل الغياب مؤلمًا كما يبقى السؤال كذلك قائمًا: ماذا نفعل عندما نشتاق؟ تمس الحكاية حنايا قلب الكبير قبل الصغير فمن منا لم يصطلي بنار الشوق، ومن منا استطاع أن يبرأ من وجعه؟

بثينة العيسى في كتابها "أسفل الشجرة أعلى التلة": "المحبة ليست أمرًا تمنع حدوثه إنما أمر تحارب لأجله"

هل يكتوي الكبار فقط بنار الشوق؟ ليس صحيحًا فها هي ابنة أختي الصغيرة ذات الخمس سنوات التي تعيش في قارة أخرى تعبر عن الشوق أبلغ تعبير. كنا نتحادث عبر إحدى تطبيقات الهاتف التي نستطيع من خلالها رؤية بعضنا البعض، وفي آخر المحادثة أخبرتها كم أحبها وأشتاق إليها وإنني أبعث لها بقبلات وأحضان كثيرة فرفضت وقالت لي: لا أريد ذلك، فارتبكت وسألتها: ماذا تريدين إذًا؟ قالت اريد أن أعبر إلى الناحية الأخرى من الهاتف واحتضنك.

اقرأ/ي أيضًا: أدب الأطفال.. الأسئلة والسياق

الحضور الكامل كان إجابة الصغيرة ذات الخمس سنوات عن سؤال الشوق والفقد والغياب. نعم يا بثينة الشوق فعلًا مشكلة... مشكلة جميلة جدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كواليس رولد دال.. أحد أشهر كتاب قصص الأطفال في العالم

"طفولة حزيران".. مطاردة سوسيولوجية للهزيمة في أدب الطفل العربي