18-يوليو-2022
بايدن أثناء زيارته للأراضي المحتلة (أ.ف.ب)

بايدن أثناء زيارته للأراضي المحتلة (أ.ف.ب)

أهم ما تمخضت عنه جولة بايدن الشرق أوسطية كان "إعلان القدس". ترسخ عنونة البيان الأمريكي-الإسرائيلي المشترك الاعتراف بوضعية القدس بوصفها "عاصمة أبدية لإسرائيل"، وهذا بذاته ليس سوى لفته بلاغية لا تضيف الكثير إلى وضع هيمنة الاحتلال على الأرض. قراءة البنود تدفع إلى التساؤل عن جدواه أو دوافعه، أي لماذا يحتاج الرئيس الأمريكي إلى وثيقة مكتوبة للتأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين بلاده وإسرائيل وعلى ضمان تفوقها العسكري المطلق على جيرانها، ألم تكن هذه أحد أركان السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة منذ تأسيس إسرائيل وربما من قبله، وكانت أيضًا ولا تزال أكثر التزاماتها ثباتًا بغض النظر عن موجات المد والجزر في العلاقة بين حكومتي البلدين؟ أم هل تحتاج إسرائيل لذلك التأكيد الآن أكثر من الماضي؟

الإفراط في قطع الوعود الأمريكية وتكرارها في عواصم المنطقة، دلالة على اهتزاز الثقة بين جميع الأطراف

 الإجابة الأرجح هي لا، فإسرائيل لم تعد في حاجة للوساطة الأمريكية كما في الماضي، بل وعلى العكس ففي سياق موجة التطبيع الأخيرة، بدا وكأن تل أبيب تلعب دور الوسيط بين الأمريكيين والأنظمة العربية. وإن كان المجمع الصناعي-العسكري الإسرائيلي ما زال بالطبع في حاجة للتعاون الأمريكي، إلا أن تطوره وصل إلى مرحلة شديدة التقدم تتيح له قدرًا واسعًا من الاستقلالية والمناورة بشكل منفرد. لم تعد تل أبيب عبئًا ولا في وضع تهديد، بل وعلى النقيض صارت نقطة ارتكاز تلجأ لها عواصم الجوار لضمان أمنها. أما التهديد الإيراني الذي يشير إليه البيان بشكل مباشر فيبدو متعلقًا بأمن العواصم الخليجية أكثر منه بأمن إسرائيل، وإن كان يصب في صالح الأخيرة بلا شك.

في "قمة جدة" يفعل بايدن الشيء نفسه، إعادة تجديد الوعود، أي التأكيد على ضمان أمن المنطقة وعدم خروج واشنطن منها. من الممكن تفهم خطاب الطمأنة هذا وتكراره، في ضوء التوتر الذي خيم على علاقات الإدارة الأمريكية الحالية بالعواصم العربية فيما يخص ملفات حقوق الإنسان. بدأ بايدن ولايته بانسحاب مذل من أفغانستان، ترك البلاد عمليًا في يد طالبان. وبلا شك كانت مشاهد الإجلاء الفوضوي من مطار كابول مفزعة لكل العواصم الحليفة لواشنطن . أما الحرب الأوكرانية فلم تحسن من صورة واشنطن كحليف يمكن الاعتماد عليه. فالعقوبات الغربية على روسيا حتى الآن أضرت الغرب أكثر مما أثرت على موسكو، وعلى الرغم من الدعم العسكري والمالي والدبلوماسي الهائل الذي تقدمه واشنطن للحكومة الأوكرانية فهذا لم يمنع التقدم الروسي على أراض أصبحت شبه محروقة، وكذا لم توقف تدفق ملايين اللاجئين لدول الجوار. في معادلة الدعم الغربي لكييف، يظهر وكأن أوكرانيا غدت مجرد ثمن لإنهاك روسيا.

الإفراط في قطع الوعود الأمريكية وتكرارها في عواصم المنطقة، دلالة على اهتزاز الثقة بين جميع الأطراف. يدرك القادة العرب أن منطقتهم لم تعد على قائمة الأولويات الأمريكية، المنافسة مع بكين هي البند الأول، مما يجعل منطقة جنوب شرق آسيا ومناطق النفوذ الصيني على مسارات الحزام والطريق هي الأهم، ومن ثم يأتي التهديد الروسي المسلط على مساحات جغرافية شاسعة تمتد من أواسط آسيا إلى حدود الستار الحديدي المنهار في شرق أوروبا ووسطها. بالتبعية، وفي تلمس للضعف الأمريكي، حادت العواصم الخليجية ومعها أنقرة والقاهرة عن خط سياسات واشنطن فيما يخص الصين وروسيا، وبالأخص بعد الحرب الروسية في أوكرانيا. على سبيل المثال، امتنعت الرياض عن رفع إنتاجها من النفط لتعويض النقص في الأسواق على الرغم من الدعوات الغربية المتكررة واللحوحة، وقدمت أبو ظبي ملجأ حماية للأثرياء الروس بعيدًا عن ذراع العقوبات الغربية. بل وحتى تل أبيب، مع ميلها الواضح إلى الجانب الغربي في الحرب الدائرة، فإنها حاولت لفترة ليست بالقصيرة لعب دور الوسيط الذي يحظى بعلاقات جيدة بالأطراف بما فيها موسكو.

في الوقت نفسه، ثمة ماراثون للقمم الإقليمية، تلك التي تلتحق بها إسرائيل أو بدونها، من المنامة إلى النقب وإلى شرم الشيخ فالرياض وبغداد، وتتم دعوة تركيا أحيانًا واليونان أحيانًا أخرى، وتعقد قمم إقليمية تضاف إليها الهند، ووسط تكهنات بناتو شرق أوسطي أو باتفاقات دفاع مشترك إقليمية جديدة، يبدو أن المشترك بين كل تلك النشاطات المحمومة أنها لا تفضي إلى مخرجات متماسكة، سوى المزيد من البيانات المعبرة عن التوجس المتبادل والمتنامي.

في "قمة جدة" يفعل بايدن الشيء نفسه، إعادة تجديد الوعود، أي التأكيد على ضمان أمن المنطقة وعدم خروج واشنطن منها

يعرف الجميع أن إسرائيل لن تخوض حربًا مع طهران بالوكالة عن العواصم الخليجية، وتدرك تل أبيب أيضًا أن دول الخليج لن تسمح بحرب إسرائيلية مع إيران على أراضيها ولا أجوائها. فمع كل إعلان عن ترسيخ للتحالف العسكري مع إسرائيل ضد العدو الإيراني المشترك، تلجأ دول الخليج لفتح الباب أمام حوار مع طهران. وحتى قبل أيام، تزامنت زيارة بايدن للمنطقة مع الحديث عن رفع أبوظبي لتمثيلها الدبلوماسي في إيران. أما فيما يخص العلاقات العربية العربية، فالجفاء المتسع بين الرياض وأبوظبي لم يعد خافيًا، وبالتوازي فإن تبرم الجانب المصري من السياسات الإماراتية وعدم الرضا المعلن من قبل الأردن فيما يخص ترتيبات التطبيع مع إسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية، كل هذا يشي بهشاشة كل التحركات الجارية، أو بالأحرى أن دافعها الوحيد هو عدم الثقة المتبادلة، وتوجس أنظمة المنطقة وقلقها. ذلك القلق الذي لا يكفي أن ننسبه إلى الانسحاب أو الضعف الأمريكي ولا إلى التهديدات الإقليمية وحدها ممثلة في إيران أو تركيا،  بل يمكن الرجوع به إلى شرارة الانتفاضات العربية قبل عقد، تلك الموجة الكاسحة والمستمرة التي عبر مزيج من الفرص والكوارث، وضعت بنية المنطقة كلها على المحك.