25-أكتوبر-2016

الخرائط التي تظهر على التليفزيون التركي مؤخرا ليست للامبراطورية العثمانية، والتي كانت أكبر كثيرا، إنها خرائط لتركيا، أكبر قليلا فقط

في الأسابيع القليلة الماضية، أسفر نزاعٌ بين أنقرة وبغداد على دور تركيا في تحرير الموصل عن انفجارٍ ينذر بخطر من "الوحدوية التركية"، أي النزعة التركية لتوسيع نفسها، حسب نِك دانفورث، المحلل ببرنامج الأمن القومي التابع لمركز السياسات غير الحزبي، في مقالٍ له بمجلة فورين بوليسي.

الخرائط التي تظهر على التليفزيون التركي مؤخرا ليست للامبراطورية العثمانية، والتي كانت أكبر كثيرا، إنها خرائط لتركيا، أكبر قليلا فقط

في مناسبتين منفصلتين، انتقد الرئيس رجب طيب أردوغان معاهدة لوزان والتي رسمت حدود تركيا الحديثة، لجعلها البلاد صغيرة للغاية. تحدث أردوغان عن اهتمام بلاده بمصير الأقليات التركية التي تعيش خارج تلك الحدود، بالإضافة إلى مطالبتها التاريخية بمدينة الموصل العراقية، والتي تملك تركيا قاعدة عسكرية صغيرة بالقرب منها. أظهرت وسائل الإعلام الموالية للحكومة التركية، إلى جانب الأخبار عن قصف الطائرات الحربية التركية للقوات الكردية في سوريا والانخراط في معارك وهمية مع الطائرات اليونانية فوق بحر إيجة، اهتمامًا جديدًا بسلسلةٍ من الخرائط البدائية غير الدقيقة، خرائط لتركيا بحدودٍ جديدة ومحسّنة.

اقرأ/ي أيضًا: داعش يطيل معركة الموصل..استراتيجية نقل العمليات

لن تضم تركيا جزءًا من العراق في أي وقتٍ قريب، يرى دانفورث، لكن ذلك المزيج من الخرائطية والخطاب الوحدويين  يلقي الضوء على سياسات تركيا الداخلية والخارجية حاليًا وتصور أنقرة عن نفسها. تكشف الخرائط، تحديدًا، عن إعادة تنشيط القومية التركية، وهي عنصرٌ قديم من عناصر بناء الدولة، من خلال بعض التاريخ المنقح وجرعة مضافة من الدين. لكن إذا كان يمكن استخلاص العبر من الماضي، فإن التدخلات العسكرية ولغة المواجهة التي تثيرها تلك القومية قد تسيء وضع تركيا الأمني والإقليمي.

للوهلة الأولى، تبدو الخرائط التي تظهر على التليفزيون التركي مؤخرًا مشابة للخرائط الوحدوية التي يضعها أنصار اليونان الكبرى ومقدونيا الكبرى وبلغاريا الكبرى وأرمينيا الكبرى وأذربيجان الكبرى وسوريا الكبرى. يعني ذلك إنها ليست خرائط للإمبراطورية العثمانية، والتي كانت أكبر كثيرًا، أو العالم الإسلامي بالكامل أو عالم الشعوب التركية. إنها خرائط لتركيا، أكبر قليلًا فقط.

تركيا.jpg
خريطة لتركيا تظهر فيها مدن الموصل وكركوك وإربيل وحلب كجزء من الدولة التركية

لكن التاريخ خلف تلك الحدود التي تتصورها يوفر المؤشر الأول على ما هو جديد وما هو ليس بجديد بشأن نسخة أردوغان من القومية، يكتب دانفورث. يفترض أن تلك الخرائط تظهر الحدود الموضحة في الميثاق الوطني التركي، وهو وثيقة اقترح أردوغان مؤخرًا أنه ينبغي على رئيس الوزراء العراقي قراءتها لفهم اهتمام بلاده بالموصل. حددت الوثيقة الموقعة عام 1920، بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، مناطق الإمبراطورية التي كانت الحكومة التركية مستعدة للحرب من أجلها. تحديدًا، طالبت الوثيقة بتلك الأراضي التي كان الجيش العثماني مازال مسيطرًا عليها في أكتوبر 1918 عندما وقعت القسطنطينية هدنة مع قوى الحلفاء. في حدود تركيا الجنوبية، امتدت الخط من شمال حلب في سوريا الحالي إلى كركوك في العراق الحالي.

عندما أعلن الحلفاء أنهم يخططون لترك الإمبراطورية العثمانية أصغر بكثير عما كانت عليه عام 1918، قاد ذلك إلى تجدد القتال الذي هزم فيه الأتراك بقيادة مصطفى كمال أتاتور القوى الأوروبية لتأسيس تركيا كما هي اليوم.

رسم أردوغان سياقًا بديلًا لا يكون فيه استعداد أتاتورك في معاهدة لوزان للتخلي عن مناطق مثل الموصل عن براجماتية واضحة وإنما عن خيانة

اقرأ/ي أيضًا: بسبب سوريا..روسيا تقوم بأكبر عملية انتشار بحري منذ عقود

طوال أغلب القرن الماضي، احتفى تاريخ تركيا الرسمي بأتاتورك لحفاظه على الحدود التي رسمها الميثاق الوطني (باستثناء الموصل بالطبع) والاعتراف بها في معاهدة لوزان. لقد كان إدعاءً مبالغًا به، بالنظر إلى الأجزاء من الميثاق التي تم التخلي عنها، لكنه شديد العملية أيضًا، حيث كان يهدف إلى منع جمهورية تركية جديدة وغير مستقرة من خسارة ما حققته بمحاولة تحقيق طموحات توسعية غير واقعية. بالفعل، بينما تسببت بلدانٌ مثل ألمانيا وإيطاليا وبلغاريا والمجر في كوارث لنفسها بمحاولة إعادة رسم حدود ما بعد الحرب بالقوة، فإن تركيا – في عهد أتاتورك وخليفته- رفضت بحكمة ذلك الدافع.

عبر إردوغان، في المقابل، عن سياقٍ بديل لا يكون فيه استعداد أتاتورك في معاهدة لوزان للتخلي عن مناطق مثل الموصل والجزر التابعة اليوم لليونان في بحر إيجة عن براجماتية واضحة وإنما عن خيانة. يعني ذلك، خلافًا لكل الدلائل، أنه كان يمكن لرجل دولة أفضل، أو ربما أكثر وطنية، أن يحصل على المزيد.

من بين أشياءٍ أخرى، يتابع دانفورث، تظهر إعادة تفسير إردوغان للتاريخ مفارقاتِ الحديث المنتشر في الولايات المتحدة عن "عثمانيته الجديدة" المفترضة. منذ عقدٍ مضى، بدا حماس أردوغان لكل ما هو عثماني جزءًا من استراتيجية فعالة لتحسين علاقة بلاده مع الشرق الأوسط المسلم، وهي سياسة رأى بعض الناقدين الأمريكيين أنها تتحدى دور بلادهم في المنطقة. لكن إعادة تقديم الميثاق الوطني كمبررٍ للوحدوية بدلأ من أن يكون مقاومًا لها لم يحظ بشعبية بين جيران تركيا. تأتي الانتقادات لسياسة أردوغان العثمانية الجديدة الآن من العالم العربي كما من أي مكانٍ آخر.

يظهر استخدام أردوغان للميثاق الوطني أيضًا مدى نجاح إسلاميي تركيا في احتواء، بدلًا من رفض، عناصر من السياق التاريخي القومي العلماني للبلاد. سارع خطاب الحكومة إلى استخدام بطولة حرب الاستقلال التركية في وصف المقاومة الشعبية لمحاولة الانقلاب الفاشلة في الخامس عشر من تموز/يوليو. وإلى جانب العثمانيين، يذكر أردوغان باستمرار السلاجقة، وهم شعب تركي سبق العثمانيين في الشرق الأوسط بعدة قرون، بل إنه وجد مكانًا لشعوبٍ تركية أكثر غموضًا مثل الغوكترك والآفار والقراخانات اشتهرت أول مرة في بروباجندا أتاتورك في ثلاثينيات القرن الماضي.

على نحوٍ مشابه، يهدف أردوغان إلى تحقيق هدفٍ قومي قديم في سوريا والعراق، وهو هزيمة حزب العمال الكردستاني، عبر البناء على الأدوات القومية التقليدية للسياسة الخارجية التركية، وهي استثمار الأقليات التركية في البلدان المجاورة. كانت كتيبة السلطان مراد، والتي تتألف بالأساس من مقاتلين تركمان، أحد الأصول التركية داخل سوريا ضد كلٍ من نظام بشار الأسد وحزب العمال الكردستاني. في تلك الأثناء، كان السكان التركمان الذين يعيشون حول الموصل والمنطقة المحيطة بها مصدر قلق وأداةً لأنقرة في العراق. عملت قوات تركية خاصة مع الجبهة التركمانية العراقية منذ عام 2003 على الأقل من أجل مد النفوذ التركي ومواجهة حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.

على مدار القرن الماضي، لعبت الأقليات التركية في شمال اليونان وقبرص دورًا مشابهًا. يعني ذلك أن أحوالهم كانت محل اهتمام حقيقي للقوميين الأتراك لكنها أيضًا نقطة ضغط محتملة على أثينا تستخدم وقت الحاجة (لعبت اليونان، بالطبع، على نحوٍ مشابه فيما يتعلق بالأقلية اليونانية في تركيا. وليس من المفاجئ مواجهة كلا الأقليتين معاناة نتيجةً لذلك). في حالة قبرص، على سبيل المثال، كان غزو تركيا للجزيرة عام 1974 متعلقًا بالدفاع عن مركزها الاستراتيجي بقدر ما كان متعلقًا بحماية المجتمع التركي بالجزيرة.

عقب تصريحه عن لوزان، أثار أردوغان غضب اليونان أكثر بقوله إن "تركيا لا يمكن أن تتجاهل أقاربها في تراقيا الغربية وقبرص والقرم وأي مكانٍ آخر". لكن أثينا قد تجد في حالة تتار القرم مصدر راحة، والتي تكشف المدى الذي يمكن به للدوافع الجيوسياسية أن تجعل تركيا تقوم بذلك: فرغم أن أنقرة عبرت عن مخاوفها بشأن وضع تتار القرم عقب استيلاء روسيا على شبه الجزيرة، يبدو أنها قد خلصت لاحقًا إلى أن تحسين العلاقات مع موسكو له أولوية على الولاءات العرقية.

لكن أردوغان قد أكد أيضًا على عنصرٍ جديد لأجندة السياسة الخارجية المجتمعية لتركيا: الطائفية السنية. في حديثه بشأن الموصل، أعلن أردوغان مؤخرًا عن أن تركيا لن تخون "أشقاءها التركمان" أو "أشقاءها السنة العرب".

مثل القومية التركية العلمانية، تمتلك الطائفية السنية جاذبية لا يمكن إنكارها بالداخل التركي، وقد أثبت أردوغان أنها يمكن اللجوء إليها انتقائيًا تماشيًا مع احتياجات السياسة الخارجية لتركيا. تتضح طائفية أردوغان الجديدة، حيث حذرت تركيا من المخاطر التي تواجه السنة في حال ما إذا سيطرت الميليشيات الشيعية على المدينة. لكن تأثير تلك السياسة أوضح في سوريا، حيث تدعم تركيا السنة الذين يهدفون إلى الإطاحة بنظام الأسد (ومن بينهم هؤلاء الذين يكافحون للاحتفاظ بحلب). لكن في كلّ من العراق وسوريا، لم يُسمح للطائفية بأن تهزم البراجماتية. كانت أنقرة حريصة على الحفاظ على علاقةٍ اقتصادية مفيدة للطرفين مع إيران رغم دعم أطرافٍ مختلفة في سوريا، كما عبرت أيضًا العام الماضي عن استعدادها لعقد صفقة مع الأسد إذا تطلبت الظروف.

 تمتلك الطائفية السنية جاذبية لا يمكن إنكارها بالداخل التركي، وقد أثبت أردوغان أنها يمكن اللجوء إليها انتقائيًا حسب احتياجات تركيا

في المجمل فإن التدخلية التركية الحالية في سوريا والعراق هي جزء من نموذج معمولٍ به، يرى دانفورث. لا يتعلق الأمر فقط بكون البلدان عادة ما تنزلق إلى الحروب الأهلية في البلدان المجاورة، وإنما أتت جميع اللحظات التي كانت تركيا فيها معرضة للوحدوية في الماضي في أوقات تغيير وعدم يقين مشابهة لما يشهده الشرق الأوسط اليوم.

في العام 1939، ضمت أنقرة محافظة هاتاي، والتي كانت آنذاك تحت سيطرة الفرنسيين، مستغلةً الأزمة في أوروبا التي كانت على شفا الحرب العالمية الثانية. آنذاك، عقب الحرب، دفع استقلال سوريا الحديث البعض في الإعلام التركي إلى التطلع إلى حلب، كما أثار نقل السيادة على جزر دوديكانيسيا من إيطاليا إلى اليونان بعض الاهتمام بحصول تركيا عليهم. على نحوٍ مشابه، لم تهتم أنقرة كثيرًا بقبرص بينما كانت تحت السيطرة البريطانية، لكن عندما بدأ الحديث عن استقلال الجزيرة، بدأت تركيا في إظهار قلقها. في وقتٍ لاحق، لم تجتح تركيا الجزيرة إلا عندما بدا أن اليونان قد تضمها وذلك لمنع ذلك التغيير في الوضع القائم. في ضوء ذلك، ربما يكون الخطاب التركي مؤخرًا أقل مفاجأةً بعد أعوامٍ عديدة أشارت فيها الأحداث والمحللين إلى تداعى كامل النظام السياسي للشرق الأوسط المعاصر.

لكن على نحوٍ أكثر تحديدًا، يتابع دانفورث، فإن السياسة التركية في الشرق الأوسط مدفوعة بقلقٍ ملح ينبع من صراعها مع حزب العمال الكردستاني، فاقمه مكاسب التنظيم شمالي سوريا. لطالما شكل حزب العمال الكردستاني أساس علاقة تركيا بجيرانها الجنوبيين، برز ذلك عندما كادت تركيا أن تجتاح سوريا عام 1998 في محاولةٍ ناجحة لإجبار دمشق على التوقف عن إيواء قائد التنظيم. على نحوٍ مشابه، أبقت تركيا على قواتٍ عسكرية في منطقة الموصل ما يقرب من حوالي عقدين، من أجل القيام بعمليات ضد حزب العمال الكردستاني. صورت أنقرة دائمًا ذلك التدخل، دون جدلٍ كبير في تركيا، على أنه يتعلق بالأمن القومي والدفاع عن النفس. اليوم يظل الدفاع عن النفس تبرير تركيا الرئيسي لأنشطتها في العراق، مع تأكيد أردوغان مرارًا على أن وجود القوات التركية هناك "هو ضمانة في مواجهة الهجمات الإرهابية التي تستهدف تركيا". طالما أبقى حزب العمال الكردستاني على وجودٍ معلن في العراق، سوف يظل ذلك التبرير الأكثر إقناعًا، محليًا ودوليًا، للانخراط العسكري خارج الحدود التركية.

بالفعل، سارع أردوغان إلى إضافة حجة جديدة إلى كل الأسس المنطقية العرقية والطائفية والتاريخية التي صرح بها لاهتمام تركيا بالموصل: تستمر الولايات المتحدة وروسيا في لعب دورٍ كبير في المنطقة رغم افتقارهما إلى أي صلاتٍ بها. أشار أردوغان إلى أن بعض الدول تطلب من تركيا، والتي تتشارك حدودًا بطول 350 كيلومترًا مع العراق، البقاء بعيدًا. رغم ذلك، وبالرغم من أنها ليست لديها أي تاريخ أو رابط بالمنطقة، فإن نفس تلك الدول "تأتي وتذهب". "هل طلب صدام (حسين) من الولايات المتحدة أن تأتي إلى العراق منذ 14 عامًا؟"، أضاف أردوغان.

بعيدًا عن التاريخ، تدرك أنقرة تمامًا حقيقية أن القوة اللازمة للقيام به تظل هي الأساس المنطقي الوحيد للتدخل الأجنبي ذي الأثر. في ذلك الشأن، يختتم دانفورث، فإن مدى شرعية الخطط التركية للموصل لم تتضح بعد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف سيتعامل مرشحو الرئاسة الأمريكية مع سوريا

 لماذا ترامب هو مرشح الأحلام لداعش؟