08-أغسطس-2015

متظاهران ضد العنصرية في بالتيمور (Getty)

لم تتوقف بعد موجة العنف، التي لا يزال سكان بالتيمور، أكبر مدن ولاية ميريلاند الأميركية، يعيشون في ظلالها. إذ شهدت المدينة هذا العام إراقة دماء واشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين لم تشهد ها من قبل، وما يشكل زيادة بنسبة 40 % عن العام الماضي بالنسبة لمنسوب العنف ومستوياته.

 لا تعفى الشرطة الأمريكية من المسؤولية عن تأجيج العنف عبر استخدامه المفرط والعنصري ضد الشباب ذوي الخلفية العرقية الأفروأمريكية

وما يضاف إلى الخسائر البشرية الرهيبة التي شهدتها المدينة، هو الانتشار الواسع للشريط الأصفر، الذي يدلّك على وجود مسرح جريمة، مما يدفع بالسكان إلى التفكير وإعادة التفكير مجددًا، وباستمرار، في الواقع المعيشي الذي تشهده المدينة، وكذلك شكل علاقتها مع السلطات الفيدرالية والأجهزة الأمنية، التي تبالغ في عنفها تجاه سكان بالتيمور لدوافع عرقية وطبقية.

لماذا تشهد هذه المدينة ما تشهده من تصاعد للعنف، بينما تشير إحصائيات الولاية أن الجزء الأكبر من ميزانية بالتيمور ينفق على إنفاذ "القانون" وتطبيقه، بينما تعد المدينة الثانية على مستوى الولايات المتحدة لنسبة عدد أقسام شرطة مقابل عدد الأفراد، إلا أن عمليات القتل مستمرة بلا هوادة.

جزء من الإجابة على هذه الحيثية يأتي من طرف الشرطة، التي لا تعفى من المسؤولية عن تأجيج العنف عبر استخدامه المفرط والعنصري ضد الشباب ذوي الخلفية العرقية الأفروأمريكية، بنفس سلسلة المبررات والعلل المرتبطة بالمخدرات والجريمة.. إلخ. ولا تقدم الشرطة جديدًا من بين التبريرات التي تطرحها، ولربما ما يمكن سماعه اليوم، لا يختلف عما اعتادت عليه إذن وعيون الجمهور في الإعلام والسينما الأمريكيين من صور نمطية عن الأقليات العرقية ومن بينها الأفارقة، إذ تحاول السلطات الرسمية إخلاء مسؤوليتها وإلقاء اللوم على المخدرات وعصابات النهب وما إلى ذلك من أنشطة إجرامية لتبرير تصاعد عمليات العنف، علمًا أن ما تمارسه الشرطة تجاه الشبان، خاصةً عندما شاعت الاحتجاجات ضد عنصرية رجال الأمن وعمليات القتل العشوائي، لا يمكن وصفه إلا بالتعاطي العسكري البحت مع احتجاجات مدنية بدأت سلمية.

لكن السبب الرئيسي والحقيقي لكل هذا العنف الذي شاع صيت انتشاره في المدينة عالميًا، يتمثل أساسًا في حالة الفوضى التي تتخلل حياة السكان وتجذر الشعور بالتهميش بعمق في الشعور الجمعي للمجتمع الذي عانى ولا زال من الإهمال الاقتصادي واليأس المدني وضيق الأفق التنموي على مدى عقود.

ولم يعد الشباب في بالتيمور يكترثون لما تقوم به السلطات الفيدرالية وسلطات الولاية من محاولات تجميلية للواقع المغرق في التمييز العنصري على خلفية عرقية، وهذا ما أكده المحامي الشاب، أركون شون، لـ"الترا صوت": "السلطات تحترف إغماض أعينها عن الجذور الأساسية لتصاعد العنف الذي تشهده المدينة، والذي يمس حياة الكل هنا، خاصًة الشباب، الذي لا يجدون أعمالًا ملائمة ولا تعليم وعملية تأهيل تراعي طموحاتهم. لقد تعرفوا على الدولة عبر عصي رجال الشرطة وطلقات مسدساتهم وأسلحتهم الأوتوماتيكية التي يوجهونها نحو صدور الشباب، ولم يتعرفوا عليها من خلال فرص العمل أو التعليم التي يستحوقها".

تعرف شباب بالتيمور على الدولة عبر عصي رجال الشرطة وطلقات مسدساتهم وأسلحتهم الأوتوماتيكية

بينما ترى الناشطة المدنية، سارة باركي، أن "جزءًا شاسعًا من مشكلة تصاعد العنف، تتحمل مسؤوليته عمدة المدينة ستيفاني بلاك، التي لا تقوم بما يفرضه واجبها وموقعها الوظيفي". وأضافت "يحتاج مجتمعنا للكثير كي يتخلص من العنف والعنف المضاد الذي يمارس فيه، ولا حاجة لأن نغرق في التفكير من بدأ أولًا، الشباب أم الشرطة، فببساطة ليس لدينا أي مراكز ترفيهية، وليس لدينا أي شيء تقدمه الولاية أو المدينة لهؤلاء الأطفال الذين يشهدون التنكيل بجيرانهم وأهاليهم على يد رجال الشرطة".

ما لا يخفى حضوره، هو الرأي السائد بين الشباب في بالتيمور والمختصين المتابعين لتصاعد العنف فيها، والذي يؤكد تفشي عنصرية قطاع من رجال الشرطة وعنفهم المفرط وتعاملهم الفظ، إضافة إلى الفقر والتهميش المؤسساتي لشباب المدينة. وتبقى أهم عوامل تصاعد العنف، لأن هذا العنف ليس متأصلًا في الهوية الاجتماعية للسكان، ما يواجهونه من عنصرية لا تخفى رائحتها في أروقة الأجهزة الرسمية.


شرطة العم سام عندما تقتل

أظهر تقرير كانت قد نشرته منظمة العفو الدولية يوم 23 حزيران/يونيو 2015، عن أوضاع حقوق الإنسان في مواجهة عنف رجال الشرطة الأمريكيين، في الولايات جميعها، بما في ذلك واشنطن العاصمة، أن جهاز الشرطة ورجاله مدانون بانتهاك القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي في الجانب المتعق بتعاطيهم مع المتظاهرين والمحتجين على العنصرية خلال الشهور الأخيرة، وكذلك بالنسبة لحوادث القتل المتكررة التي وقع بحق عدد من الشبان الأمريكيين الأفارقة.

جرائم الشرطة الأمريكية بحق المدنيين كثيرة، وتتجاوز القانون الدولي وحقوق الإنسان

وما يلفت إليه تراكم الأحداث المرتبطة بالعنف الشرطي وجرائم العنصرية في مختلف الولايات الأميركية، هو أن مئات الشباب والشابات يقتلون سنويًا على أيدي رجال الشرطة، وبغير وجه حق، ولا توجيه تهم أو محاكمة عادلة، بل إن فئةً واسعة منهم فقدت الأمل بالحياة، ويتعرضون للعنف والإهانة لمجرد اشتباه رجل شرطة ورغبته بممارسة العنف. ولكن، بالطبع فإن الدوائر الرسمية، المحلية والفدرالية، لا تصرح بفحوى هذه الأرقام، ولا توفر أي معلومات دقيقة حولها، تمامًا كما هو الحال في دكتاتوريات العالم الثالث العسكرية، وليس كما يفترض أن يكون على أرض "دولة الحريات" التي ترعى الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. لكنها، للمناسبة، دولة احتلت ودمرت الكثير من البلدان، عربية وغير عربية، مستخدمةً هذه الشعارات في معرض تسويغ الاستعمار الجديد.

ما وقع خلال الشهور الأخيرة، في حادثة فريدي غراي في بالتيمور، والتر سكوت في كارولاينا الجنوبية، ومايكل براون في بلدة فيرغسون، الذي كان مقتله سببًا في شهرتها، إنما يؤكد على أن جرائم الشرطة الأمريكية بحق المدنيين كثيرة، وتتجاوز القانون الدولي وحقوق الإنسان، وترتكب انتهاكات فاضحة. تسلط هذه الحوادث وشبيهاتها الضوء على حالة غياب القوانين واللوائح الخاصة باستعمال رجال الأمن للقوة. في أكثر من 9 ولايات لا وجود لأي قانون من شأنه تنظيم استخدام القوة في الحالات التي "يضطر" فيها رجل الأمن إلى ذلك. هل هذا ديمقراطي؟!

ولا يمكن طمس الخلفية التي تقوم على أساسها مثل هذه الجرائم من قبل من يفترض بهم حفظ الأمن المجتمعي والسلم الأهلي ضد شباب لا يفعلون ما يستحق القتل، سوى أنهم يحاولون ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، في دولة ادعت أنها تخلصت من التمييز العنصري منذ أكثر من خمسة عقود. في الوقت الذي تؤكد فيه الوقائع، والتقارير الدولية التي تصدر تباعًا لرصد حالة المغالاة والإفراط في استخدام القوة، القاتلة في كثير من الأحيان، أن التعاطي مع الشباب من أصول أفريقية في "أرض الأحلام والحرية" ما هو إلا تعاط عسكري بحت، يتجاوز القواعد المرعية دوليًا بالنسبة لآليات استخدام القوة الشرطية تجاه المدنيين في الحالات التي يتطلب حفظ النظام فيها ذلك.

تطرح هذه الظاهرة العنفية المتنامية في الولايات المتحدة، والتي لا يتوقع أن يكون حلها وحصرها، قريبًا أو يسيرًا، أسئلة برسم منظمات حقوق الإنسان، وكذلك الأوساط السياسية التي تؤمن بالتدخل الأمريكي في بلدانها لصالح الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولعل السؤال الأبرز "هل هذا هو مثال الإنصاف، فيرغسون وبالتيمور؟".