25-نوفمبر-2016

محمد الجالوس/ الأردن

يستيقظ جميل صباحًا ليجد السرير خاويًا إلى جواره، يتحسسه ليجده رطبًا من إثر الليلة الماضية. هذه غرفة في فندق القدس بعمّان، يتأهب حتمل كعادته للتعامل مع خسارته المعتادة من"النساء الهاربات" اللواتي يختفين فجأة ويظهرن فجأة "بقصة شعر جديدة"، و"طلاء أظافر جديد" في مقهى جديد تمامًا. على الأغلب سيدوّن هذه الحادثة إلى جانب سابقاتها أو سيشطب دستة جديدة بخط أخير. لكنه لن يخبر محمد بالأمر، هل كانا أصدقاءً؟ ربما أقام حتمل في ذلك الفندق ليومين، أعتقد أن طائرته هبطت مطار الملكة علياء في أواخر تمّوز/يوليو 1988، خلّف باريس وراءه، فلن تكون أفضل من دمشق، هل كان متزوجًا وقتها؟ أظن ذلك، فقد كان في الثانية والثلاثين، وربما كان ألفريد الصغير في الصف الابتدائي الأول.

يستيقظ جميل صباحًا ليجد السرير خاويًا إلى جواره، يتحسسه ليجده رطبًا من إثر الليلة الماضية

المهم، لماذا لن يخبر محمد بالأمر؟ اللعنة، وما الذي سيجديه إخباره؟ هل التقيا في عمّان، أم في دمشق؟ أعرف أن حتمل زار عدة عواصم عربية من بينها عمّان؟ لكن هل زار طمليه دمشق قبل أن ينفى منها حتمل؟ أم زار حتمل في منفاه بباريس؟ أم أنهما التقيا مصادفة في عاصمة عربية عدا عمّان؟ ما الذي يعنيه الزمان أو المكان هنا؟ حتمل أمضى عمره في منفاه الباريسي حتى آخر أيامه في مشفى كوشان بباريس، الذي كتب فيه مجموعته الأخيرة، "قصص المرض.. قصص الجنون"، وهو يطلب من الله أن يعيده ولو جثة إلى الوطن، وحين انتظره أصدقاؤه في صالة الوصول بمطار دمشق، انتظروا برهة من الوقت ولم يظهر، وقد سأل شوقي بغدادي، إبراهيم صموئيل، أوصلت طائرة جميل؟ فأجاب بلى في موعدها تمامًا، ثم تذكروا أنه لن يأتي سائرًا على قدميه، وأن عليهم استلام جثمانه من قسم الشحن كما أشار حسان عزّت.

اقرأ/ي أيضًا: عن الفن.. اقتراح للخلاص من القشعريرة

ما الذي يدفعني لدس طمليه وحتمل عنوة في مقال واحد معًا. أيكفي أن طمليه ولد عام1957 وحتمل عام 1956؟ هذا سخيف، لكن كلاهما يساريًا سابقًا، أمضى كلٌ منهما ردحًا من الزمن في أقبية المخابرات السورية والأردنية، أيكفي؟ لا، كلاهما توفي بمرض عضال، حتمل ولد بقلب ذي صمامات ضعيفة رافقه ثمانية وثلاثين عامًا، وطمليه كان يدخن بشراهة -ستين سيجارة يوميًا- حتى عندما تلقّى رسالة على هاتفه تفيده بأنه مصاب بسرطان اللسان، ما كان عليه سوى أن يشعل سيجارة جديدة، لكن بسرعة هذه المرة، أيكفي؟

جميل حتمل

 

حتمل "الرجل الطفل" المصاب بلعنة الفقد وهجر النساء، أتصوره رفيقًا مثاليًا لطمليّه الذي على حد قوله "نسي أن يتزوج". فألفي طمليه نفسه في نهاية المطاف كما يظهره فيلم تسجيلي عنه -لساندرا ماضي، جالسًا على صخرة في إحدى قرى جنوب الأردن حيث نشأ، في يده اليمنى سيجارة "جيتان لايت"، وفي يده اليسرى زُرعت "كانيولا" للعلاج الكيماوي، وقد أضحى "خيمة مضروبة بالعراء أو رصاصة ببيت النار".

تعريف الوطن

يقول طمليّه في أيامه الأخيرة، والتي يظهر فيها هنا مرتديًا قبعة خضراء، أنه لا يستطيع الدفاع عن مكان ليس فيه شخص يحبه، ويقول أيضًا أن أفضل نبيذ ليس ذلك الذي يشرب في الوطن، لكن في وجود رفقة جيدة، مقتبسًا من سبارتاكوس. لكن في مواضع أخرى يصرح بأن لعنة المكان الأول تظل تلاحقه، لا يملك لنفسه منها مفرًا، فعند الخروج من المدينة، يجد أنه يحملها معه، كطفل لئيم اختبأ بالحقيبة الخلفية للسيارة عنوة. في أيامه الأخيرة، يتطرق حتمل أيضًا لذكريات الطفولة، طفولته هو يتيم الأمّ ابن الفنان التشكيلي ألفريد حتمل، ولطفولة ابنه، ألفريد الصغير، الذي خلّفه وراءه في الوطن مع حزمة من الأحلام والرسائل التي لا يمكن أن تصل السجين السياسي لو انبطقت السماء على الأرض.

طمليه: أخذت كيماويًا وصرت أنزع خصلات شعري، خصلات من رأسي، كأنما وردة

عودة إلى الطفولة

يتحدث حتمل عن الصحن الذي سقط في البئر، وعن لسان أم ثلجة وعن الخال ابن نصره، وعن جده الذي كان يدمن العرق، حينما احتجزوه لم يجد رفقاء السجن أمامهم سوى "السبيرتو" ليقدموه له، المشروب المحلي للسجن، يتحدث عن الكاسيت الذي وضعت كل العائلة أصواتها فيه ثم ضل طريقه للمرسل إليه. طمليه أيضًا يذكر مشهدًا من واضحًا وقويًا من طفولته، يذكر أن الحنفية الوحيدة الموجودة في الحي كانت في بيتهم، وبنات الجيران كن يأتين لجلب الماء، إحداهن ابتسمت له، يقول بأنه يريد، أو ما زال يريد أن يكتب عن تلك الابتسامة الوحيدة التي حظي به وسط صفع مستمر وركل متواصل.

اقرأ/ي أيضًا: رياض الصالح الحسين.. بعيدًا عن التصفيق والتهليل

آخر العمر

"أخذت كيماويًا وصرت أنزع خصلات شعري، خصلات من رأسي، كأنما وردة، وأنا أنزع أوراقها ورقة ورقة، لا تحبني، تحبني، لا تحبني، تحبني.. إلى أن أغدو أصلعًا بالكامل"، هذا طمليه من على سرير المرض، هنا يرتدي نفس القبعة، بلا شعر مسترسل ولا لحية كثيفة كما اعتدت أن أعرف صورته النمطية، وللمرة الأولى أراه يبتسم من أعماق روحه وفي يده كتاب "جلجامش". يستيقظ حتمل في قصة "آخر الصبح" المهداة لوالده آلفرد حتمل، ليجد رجلًا ميتًا في منزله، وقد تورط في وجوده ولا يملك التخلص منه. يستيقظ طمليه أيضًا، لكن في الشارع، في إحدى قصص مجموعته الأولى"المتحمسون الأوغاد"، على صوت رجل يصرخ: أحمااااد. كان ذلك الرجل يصطدم بالمارة ويستوقفهم ثم يعتذر منهم: آسف لقد ظننتك أحمد.

محمد طمليه

 

الحلم الشيوعي

نظريًا حتمل يكبر طمليه بعام واحد قضاه وهو يصارع المرض ويبكي لاعنًا اتفاق "غزة-أريحا"، ويلوم في إحدى قصصه "عادة.. سرية" الفتاة ذات المعطف القصير الأحمر، على سعادتها غير المبررة وهي تلعب بالثلج، فهي لم تسمع بهذا الاتفاق. نظريًا أيضًا، فقد لعن طمليه هذا الاتفاق كذلك، بل إنه استقال من الحزب الشيوعي الأردني في إحدى الفترات، مقدمًا استقالته للشهداء راجيًا قبولها، وموضحًا أنه قد سلم العهدة ومن ضمنها "البنادق والأوسمة وجعبة فيها أحلام ونوايا ثورية" رماها عمال التنظيفات في "أمانة دمشق" في "ساحة المرجة". عبر طمّليه عن سخطه لزيارة غورباتشوف المخيمات الفلسطينية في أجواء جعلت المخيمات معلمًا سياحيًا يزوره الضيوف بعد عودتهم من "البتراء". أما حتمل فكان يبكي، ليس على أبيه ولا على دمشق ولا على نسائه الراحلات هذه المرة، بل لأنه أدرك أن الحلم الشيوعي لن يتحقق.

نهاية افتراضية

"يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
وعاد في كفن".

يقتبس طمليه أبيات درويش هذه في إحدى نصوصه وأقتبسها أنا بدوري عنه، وينعي طمليّه درويش وقد رحل بعده بشهرين، أتمنى أنه بصدفة ما، أو بعلاقة غير معلنة، كان طمّليه في مطار دمشق إلى جانب إبراهيم صموئيل وحسّان عزّت، والأب إلياس خوري، والمخرج أسامة محمد. لقد كان هناك في انتظار رفيقه وأنشد أبيات درويش هذه.

وإني "أخاف أن ننساه".

 

اقرأ/ي أيضًا:

صادق جلال العظم.. أنفاس الفيلسوف الأخيرة

عبد الحميد الجلاصي.. حصاد السجن التونسي