19-أبريل-2022
لوحة للفنان الأمريكي من أصول أفريقية هانك ويليس توماس

لوحة للفنان الأمريكي هانك ويليس توماس

مع ظهور التوجهات النقدية في دراسات العلوم الاجتماعية وصعود حركات التحرر في الجنوب العالمي، تم صك مصطلح المركزية الأوروبية (Eurocentrism) الذي تحول إلى مصطلح رائج في دراسات ما بعد الاستعمار والدراسات النسوية والتوجهات الجديدة في التاريخ والجغرافيا وعلم الآثار. وتبلور المفهوم من خلال محاولة تقديم قراءة لتاريخ وواقع مجتمعات الجنوب العالمي تتجاوز التصورات الأوروبية والأمريكية الاستعمارية، وتحاول دراستها دون التأثر بالتحيزات الغربية التي تركت أثرًا في التفكير في هذه المجتمعات.

المركزية الأوروبية هي موقف ومجموعة من المعتقدات ونموذج فهم وتحليل تكون أوروبا فيه المحرك الأساسي ومركز القيم العلمية والأخلاقية والقانونية والحضارية

المركزية الأوروبية هي موقف ومجموعة من المعتقدات ونموذج فهم وتحليل تكون أوروبا (الغرب) فيه المحرك الأساسي ومركز القيم العلمية والأخلاقية والقانونية والحضارية، وتمتلك وفقًا لهذا التصور نماذج للأنظمة الاقتصادية والسياسية هي الأفضل في العالم. والمركزية الأوروبية ليست مجرد تحيز عرقي، بل ترتبط بشكلٍ وثيق مع العنف الاستعماري الإمبريالي، وهي تتجاوز فكرة جعل هذا العنف الاستعماري ممكنًا إلى جعله مقبولًا ومبررًا.

الإشكالية الأكبر للمركزية الأوروبية، هي تفسيرها لكل الظواهر في العالم من خلال نظرة أوروبية، بما يفترض تفوق القيم الثقافية الأوروبية على قيم المجتمعات غير الأوروبية. ورغم أن هذا التصور انعزالي في جوهره ومناهض للكونية، إلّا أنَّه يقدم نفسه كظاهرة عالمية، داعيًا العالم إلى الاحتذاء بالنموذج الأوروبي وتقليد "القيم الغربية" بغض النظر عن التمايزات واللا مساواة.

تتسم المركزية الأوروبية بقيامها على ثنائيات جوهرية، مثل الغرب والشرق، والجنوب والشمال، والأبيض والأسود، والتقدم والتخلف، وهذه الثنائيات في النظرة إلى العالم تساهم في خلق النموذج "الأمثل والأفضل". ومن أجل تعزيز هذه الثنائيات يتم تعزيز فرض التصنيفات والمفاهيم الأوروبية في العملية السياسية والخطاب الأكاديمي.

وينتج عن المركزية الأوروبية في السياقات الأكاديمية، معرفةً معيارية تعميمية، منفصلة عن الواقع المتنوع، ومفرطة في التجريد، لا نستطيع من خلالها النظر إلى التنوعات الموجودة على أرض الواقع. وفي السياقات السياسية، ساهمت في إدامة علاقات السلطة الاستعمارية وتبريرها، وإظهار ضحايًا أفضل من ضحايًا آخرين، والقيام بالحروب من أجل نشر الثقافة الأوروبية/ الغربية.

 يشار إلى أن التعامل مع المركزية الأوروبية عربيًا كان مبكرًا في من قبل أشخاص مثل جمال الدين الأفغاني، لكنه لم يتبلور كمصطلح فكري إلّا في كتابات المفكر الماركسي المصري سمير أمين، الذي ينظر إلى المركزية الأوروبية باعتبارها "مجموعة الرؤى الثقافوية الطابع، تقوم على افتراض تواجد مسالك تطوّر خاصة لمختلف الشعوب لا يمكن إرجاعها إلى فعل قوانين عامة تنطبق على الجميع. وللمركزية الأوروبية طابع مضاد للعالمية، فلا يهتم لكشف القوانين العامة التي تحكم تطور جميع المجتمعات. إلا أنها تقدم نفسها في ثياب العالمية، وتقترح على الجميع محاكاة النمط الغربي بصفته الأسلوب الفعال الوحيد لمواجهة تحديات العصر".

ويضيف أمين أن هذه الأطروحة تقوم على فرضية وجود استمرارية تاريخية أوروبية منذ اليونان القديم ثم روما إلى القرون الوسطى الإقطاعية ثم الرأسمالية المعاصرة. ويتم ذلك من خلال قطع العلاقة بين اليونان القديم والبيئة التي نما فيها وهي بالتحديد بيئة "شرقية". بالإضافة إلى الامتناع عن استئصال العنصرية معتبرًا أن لا مفر منها من أجل التأكيد على وحدة أوروبية مزعومة. وإلحاق المسيحية وبشكل تعسفي ضمن الاستمرارية الأوروبية، واختراع اصطناعي لشرق وهمي يلائم احتياجات مركزية أوروبا.

ويرى أمين، أن هذه النظرية التي تشكلت ضمن النظام الرأسمالي، قد وصلت إلى خلاصة مطلقة لتاريخ أوروبا، فاعتبرت أنه لم يكن من الممكن أن تظهر الرأسمالية والعالم المعاصر في مكان آخر، وأن على المجتمعات الأخرى أن تتماهى مع النموذج الأوروبي من أجل مواجهة تحدياتها، وأن تتخلص من خصوصياتها الطبقية باعتبارها مسؤولةً عن "تخلفها". ولم يقتصر ذلك على أن يكون رؤيةً للعالم بل تحول إلى مشروع سياسي، يعمل على تحقيق التجانس في العالم من خلال تعميم النمط الغربي.

التعامل مع المركزية الأوروبية عربيًا كان مبكرًا  لكنه لم يتبلور كمصطلح فكري إلّا في كتابات المفكر المصري سمير أمين

أما الباحثين الذين تحدوا المركزية الأوروبية وقدموا كتابات نقدية ضدها فهم كثر وفي مجالات متعددة،  في دراسات ما بعد الاستعمار والنسوية والأدب وعلم النفس، مثل فرانز فانون وإدوارد سعيد وطلال أسد وصبا محمود ومارتين بيرنال وحسين العطاس وآشيل مبيمبي وشاكرابارتي ديبيش وبارثا تشاترجى وراناچيت جوها وغاياتري سبيفاك وليلى أبو لغد وغيرهم.