04-مايو-2022
تصبح الديمقراطية التوافقية في سياقات مأسسة للطائفية (Getty)

تصبح الديمقراطية التوافقية في سياقات مأسسة للطائفية (Getty)

الديمقراطية التوافقية، هي نموذج من الديمقراطية، يقوم على أساس خلق أرضية مشتركة في مجتمعات متمايزة سواء طائفيًا أو إثنيًا أو لغويًا، تعمل على المساهمة في تسيير اتخاذ القرارات وسن القوانين والتشريعات، من خلال تقاسم السلطة بين كل فئات المجتمع، على عكس الديمقراطية التمثيلية، التي تتخذ فيها الأغلبية القرار. وبذلك تتقاسم مجموعات مختلفة سياسيًا أو مجتمعيًا، السلطة واتخاذ القرارات والوظائف، وتساهم هذه الطريقة كما هو مفترض من وجهة نظر المدافعين عنها باستقرار الديمقراطية داخل الدولة. وتعتبر بديلًا عن الديمقراطية التمثيلية، باعتبارها تراعي خصوصية المجتمعات.

الديمقراطية التوافقية، هي نموذج من الديمقراطية، يقوم على أساس خلق أرضية مشتركة في مجتمعات متمايزة سواء طائفيًا أو إثنيًا أو لغويًا

يتضمن هذا النموذج من الديمقراطية عدة سمات مميزة له، مثل تقاسم السلطة التنفيذية، أي عدم سيطرة مجموعة معينة أو حزب على القيادة في الدولة. بالإضافة إلى نظام التمثيل النسبي، الذي يضمن تمثيل كل مجموعة حسب وزنها الديمغرافي، وتمكين الأقليات من حصولها على حصة في الحكم، وعدم استبعاد أي حزب أو هيئة، بغض النظر عن اختلافها في السياسات. كما يظهر فيه عادةً نوع من التوازن بين السلطة التنفيذية والتشريعية، وفي بعض الأحيان ثنائية الهيئات التشريعية، وتعدد الأحزاب السياسية، داخل كل مجموعة وفي الدولة، وتتشارك أغلبيتها بالمحصلة في الحكم.

ولأن المجتمعات المتمايزة، تكون مهددة بالاستمرار في خطر حصول حروب أهلية أو تعطيل العملية السياسية فيها، فإن الديمقراطية التوافقية تسعى لتجاوز فكرة الأغلبية الضيقة، التي تترك أقليةً كبيرةً غير راضيةً عن السياسات المتخذة داخليًا ودون تمثيل سياسي، فتحاول تجاوز هذه الفجوة، وتضمين إرادات وتوجهات وتصورات المزيد من الناس ضمن النظام. كما تمنح الحكومة دعمًا أوسع نسبيًا وتزيد في شرعيتها لدى الناس.

التوافقية تفشل أحيانًا

تعاني الديمقراطية التوافقية من عدة عيوب، يرتبط أهمها في مدى فعالية اتخاذ القرارات وتطبيقها، فعملية اتخاذ قرار بالإجماع وتطويره، تحتاج إلى الكثير من الوقت والمداولات من أجل الوصول إلى اتفاق نهائي وجامع بين كل الطوائف/ الإثنيات، التي تبحث كل واحدة منها عن مراعاة مصالحها، مع امتلاك حق النقض المتبادل. كما أن محاولات تحقيق الإجماع لا تفلح دائمًا ويتمترس كل طرف خلف مصالحه أو أهدافه. كما أن هذا الشكل يتيح الفرصة لطوائف/ إثنيات كبيرة بالقيام بالضغط على الأقليات ومحاولة إسكات الاعتراضات، دون الالتفات لأهميتها أو أحقيتها، من أجل تمرير القرارات وعدم تعطيل الحكومة.

كمثال على هذه المآزق، يمكن النظر إلى التجربة اللبنانية التي فشلت في انتخاب رئيس للدولة لمدة عامين ونصف، إذ إن حكومة حسان دياب، التي قدمت استقالتها بعد انفجار مرفأ بيروت، استمرت في عملها، بصفتها حكومة تسيير أعمال لمدة عام تقريبًا. إضافة إلى مشاكل البرلمان العراقي وقضايا المحاصصة وغيرها.

بالإضافة إلى ما سبق، يُنظر للديمقراطيات التوافقية، باعتبارها تسليمًا للانقسامات القائمة في المجتمع، دون محاولة تحقيق تقارب بين الجماعات المختلفة، بل إنها تساهم في مأسسة الانقسام القائم مجتمعيًا، مما يساهم في التقليل من إمكانية الاندماج، أو تحقيق المصالحات المجتمعية في حال جاءت الديمقراطية التوافقية بعد حروب أهلية. كما أن هذا النمط ينتج عن تصور الطوائف لنفسها كحصص في الدولة، فيما يصبح التنافس بين السياسيين على مصلحة الطائفة وليس مصلحة الأمة.

أين توجد وكيف ظهرت؟

تطورت الديمقراطية التوافقية في أوروبا، وتحديدًا بعد الحرب العالمية الثانية، ومن النماذج عليها، هولندا من عام 1917- 1967 التي حددت باعتبارها أول دولة تقوم فيها الديمقراطية التوافقية، وبلجيكا بعد الحرب العالمية الأولى، وسويسرا منذ عام 1943، والنمسا من عام 1945- 1966، وتشيكوسلوفاكيا من 1989 حتى عام تقسيمها في 1993، كما تعتبر لوكسمبرغ أيضًا ديمقراطية توافقية، وإيرلندا الشمالية منذ 1998.

هذا التطور لم يبق محصورًا في أوروبا. تعد لبنان من أوائل الدول التي ظهر فيها هذا النموذج أيضًا، فقد قامت فيها ديمقراطية توافقية منذ عام 1943- 1975 وهو عام بداية الحرب الأهلية، وتجددت فيها منذ اتفاق الطائف 1989، والذي عدلت فيه بعض البنود المرتبطة في التمثيل والصلاحيات. كما ظهر في ماليزيا منذ 1955، وكولومبيا من 1958- 1974، بالإضافة إلى الهند حتى أواخر ستينات القرن الماضي، وقبرص من 1960- 1963، وجنوب أفريقيا منذ تصفية الاستعمار فيها عام 1994، والعراق بعد الغزو الأمريكي له عام 2003.

يُنظر للديمقراطيات التوافقية، باعتبارها تسليمًا للانقسامات القائمة في المجتمع، دون محاولة تحقيق تقارب بين الجماعات المختلفة

ويصف المفكر العربي عزمي بشارة، ظهور الديمقراطية التوافقية باعتبارها "سياسات عملية أملتها الضرورة ودساتير متناسبة مع الحاجة والتجربة التاريخية والثقافية، وتوطنت في الأعراف في دولة معنية، وذلك قبل أن تصبح نموذجًا نظريًا". وما يشير له بشارة أن الممارسة كانت سابقة على النظرية، وأن التجربة تركت أثرًا في الديمقراطية التوافقية، ولا يمكن الحديث عن ديمقراطية توافقية معيارية بصفتها النموذج الأمثل، أو الذي يجب اتباعه. كما أن محددات معينة، في ديمقراطيات توافقية، قد لا تظهر في أخرى من نفس التصنيف، نتيجة اختلاف التجربة التاريخية. وتطورت النظرية، بناءً على التجارب الأوروبية تحديدًا، من قبل غيرهارد ليمبروخ، وغابريل ألموند، وأرينت ليبهارت، الذي كانوا يقومون ببناء العمل النظري بناءً على التغيرات في الواقع.