14-فبراير-2020

تنكر البنيوية فاعلية الفرد (ألترا صوت)

الترا صوت- فريق التحرير

بعد الحرب العالمية الثانية، كان شبح الوجودية يخيم على فرنسا وجزء من أوروبا والعالم، بما تضمنته من انشغال بالفرد، باعتباره فاعلًا أساسيًا في خلق معنى حياته، وخلاصه الإنساني، مع الشهرة الواسعة التي اكتسبها مفكرون مثل جان بول سارتر، استنادًا إلى أفكار فلاسفة أقدم مثل سورين كيركغور ومارتن هايدغر.

حسب ستراوس، فإن البنيوية كانت بمثابة إعادة اعتبار للحلم القديم الذي طالما راود الفلسفة والعلوم الإنسانية، بأن تدخل فردوس العلوم الطبيعية، في إشارة إلى إمكانية دراسة الواقع الاجتماعي كظاهرة منظمة ومرتبة

لكن وعلى الضفة الأخرى من المناظرة التاريخية حول "الإرادة الحرة"، ودور الفرد في واقعه الاجتماعي، كان ثمة أصوات جديدة تتبلور، مستلهمة تراثًا متقطعًا من علم اللغويات بدأ من عشرات السنوات، تحتج على الذاتية المفرطة التي تبنتها الوجودية، وعلى اعتبار الفرد وحدة نهائية للتحليل، وموضوعًا فلسفيًا منفصلًا. بعد سنوات قليلة، سُتسمى تلك الموجة، بالبنيوية[1].

اقرأ/ي أيضًا: باختصار.. ما هو الاستعمار الاستيطاني؟

لا يتم غالبًا التحقيب للبنيوية من خلال مجموعة من المفكرين الذين يشتركون في تصور ابستمولوجي (معرفي) أو فلسفي واحد، أو حتى اهتمامات مشتركة في حقول بعينها، بقدر ما يتم التأطير لها من خلال المشتركات في اعتقاداتهم المنهجية اللغوية تحديدًا. وعلى هذا النحو، فإنه يتم التأريخ للبنيوية قبل ذلك من خلال مفكرين ولغويين برزوا في بداية القرن العشرين، مثل اللغوي السويسري وأحد آباء السيميولوجيا فرديناند دي سوسور (1857–1913)، والعالم اللغوي والناقد الأدبي الروسي رومان ياكوبسون (1896-1982)، من يُعتبر على نطاق واسع الملهم الأساسي لأفكار كلود ليفي ستراوس، الأشهر في الحقبة الجديدة من المدرسة البنيوية، والذي نقل المنهج البنيوي إلى حقل الأنثروبولوجيا، إضافة إلى جاك لاكان، الذي يعود له الفضل في استخدام التصورات البنيوية في التحليل النفسي، وإلى الناقد الأدبي الشهير رولاند بارت[2].

البنيوية كمنهج لغوي

على العموم فقد بدأت الطروحات الأساسية في البنيوية من مقاربة اللغة كنظام شامل، تتحكم به علاقات داخلية، في فكر دي سوسور، وتحديدًا في كتابه "درس في اللغويات". وعلى هذا النحو، فإن هناك أربع ثنائيات أساسية تتحكم في التحليل البنيوي، حسب عالم اللغويات السويسري، وهي الدال (signifier) والمدلول (signified)، واللغة كنظام (langue) واللغة كاستعمال أي الكلام (parole) والبنية التحتية (infrastructure) والبنية الفوقية (superstructure)، والزماني (diachronic) والتزامني (synchronic). ولا يركز هذا النوع من التحليل على كل عنصر على حدة، وإنما على العلاقات التي تحكم مسار هذه العناصر[3].

  • الدال هو الشق الصوتي أو البصري من العلامة اللغوية، بينما المدلول هو المفهوم الذهني أو الصورة العقلية والروابط النفسية المرتبطة بالدال، واتحادهما أي الدال والمدلول يشكل العلامة اللغوية (linguistic sign). والعلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية، أي وعلى سبيل المثال، فإنه لا علاقة واضحة بين الأصوات "ك.ت.ا.ب" وبين المعنى الذي تحيل إليه في ذهننا كمتحدثين بالعربية. وهو ما يفسر أن شخصًا لا يجيد اللغة العربية لن يستدل إلى نفس المعنى، وأن هناك أكثر من صيغة لغوية تشير إلى نفس المدلول أو المعنى، في لغات مختلفة، مثل "B.O.O.K" في الإنجليزية مثلًا[4].
  • اللغة كنظام (langue) تعني مجموعة القواعد والأنماط التي على متحدثي لغة ما أن يلتزموا بها، لكنها منفصلة عنهم، وهي النظام النظري أو البنية التي تنتظم من خلالها لغة ما، أما الكلام، فهو التجلي الفعلي لذلك النظام وتلك القواعد، من خلال أفعال الأفراد الذين يتحدثون بتلك اللغة، أو يكتبون بها. والفرق بينهما هو الفرق بين البنية وبين الحدث، وبين القواعد الاجتماعية، وعملية تلقيها بشكل غير واعٍ من قبل الأفراد، وهي ثنائيات أساسية في الفكر البنيوي. أي أن اللغة هي مؤسسة اجتماعية، بينما الكلام عمل فردي سلبي، أي خاضع بشكل كامل للقواعد التي تحكم اللغة[5].
  • المقصود بالتزامني، هو الميزات الثابتة للنظام اللغوي في لحظة زمنية محددة، أما الزمني، فهو المسار والتطور التاريخي لعنصر اللغة، أي ما هو اجتماعي وتاريخي في تلك اللغة[6].
  • أخيرًا، فإن البنية التحتية هي مجموعة العلاقات الأولية التي توضح وتمنح معنى للبنية الفوقية، فمثلًا فإن اللغة (langue) تعمل كبنية تحتية بالنسبة للكلام [7].

ماذا يعني هذا المنهج بالنسبة لدراسة الفرد والمجتمع؟

تميزت المدرسة الفكرية التي أطلق عليها اسم البنيوية، باعتبارها تمثل توقًا مستمرًا إلى العثور على الناظم أو النظام داخل الفوضى والاعتباطية في المجتمع واللغة والنصوص. وعلى حد وصف ستراوس، فإن البنيوية كانت بمثابة إعادة اعتبار للحلم القديم الذي طالما راود الفلسفة والعلوم الإنسانية، بأن تدخل فردوس العلوم الطبيعية، في إشارة إلى إمكانية دراسة الواقع الاجتماعي كظاهرة منظمة ومرتبة[8].

ليفي ستراوس، أحد مؤسسي النظرية البنيوية

لكن ماذا يعني هذا التصور عندما نفكر في المجتمع، وليس في اللغة فقط؟ إن الفلسفة البنيوية في اللغة أو الأدب أو علم النفس أو علم الاجتماع، تدرس الظواهر بما هي "بُنى" لها قوانينها الداخلية الخاصة بها ولا تتأثر بالخارج، إلا في حالات نادرة. والبنية تعني الترتيب أو النظام الذي يتكون من عناصر (أفراد، كلمات، وسائل إنتاج، إلخ) والعلاقات والقواعد التي تربط العناصر. وفي حين لا تولي البنيوية أي اهتمام، بما هو خارج الإطار المسمى بنية، فإنها أيضًا لا تهتم بالعناصر نفسها داخل البنية، ولكن بالعلاقات وعمليات التفاعل التي تجمعها. فالعناصر كما في اللغة، لا تكتسب أي قيمة خارج هذا التفاعل[9].

وفي التصور البينوي حول المجتمع، فإن الكلمات والأشياء والأفراد وأنماط الإنتاج ليس لها قيمة جوهرية أو ذاتية، أي قيمة لتلك العناصر بذاتها، بل قيمة بنيوية، أي مكتسبة نتيجة وجودها داخل البنية أو النظام، ونتيجة تفاعلها مع العناصر الأخرى. وبالتالي فإن الفرد وهويته لا يُعرفان بصفاته الوجودية أو الذاتية، ولكن من خلال وجوده داخل نظام أو إطار بنيوي. ما يعني أن الفرد خاضع تمامًا للعلاقات الاجتماعية، مع الرفض الكامل لفكرة الذات الفاعلة أو الواعية[10].

اقرأ/ي أيضًا: باختصار.. ماذا تعني "ما بعد الحداثة"؟

إن التركيز على تحليل البنية، دفع المفكرين البنيويين إلى التقليل من شأن الفاعلية الفردية، أو الوعي الفردي، وهو ما تجسد في مفهوم "موت الذات" (death of the subject). بينما تجسد في النقد الأدبي في فكرة "موت المؤلف" عند رولان بارت. وهو ما يعني أن مفهوم الذات، باعتباره كيانًا واعيًا ومستقلًا وفاعلًا غيرُ موجود ولا يصلح لتفسير التحولات الاجتماعية والثقافية. وحتى في علم النفس، أعاد جاك لاكان قراءة نظرية سيغموند فرويد بطريقة بنيوية، حيث تلعب العلاقات الديناميكية بين الهوية والأنا والأنا العليا دور البنية التحتية، بينما تتجسد بالنسبة له البنية الفوقية من خلال السلوك.

تميزت المدرسة الفكرية التي أطلق عليها اسم البنيوية، باعتبارها تمثل توقًا مستمرًا إلى العثور على الناظم أو النظام داخل الفوضى والاعتباطية في المجتمع واللغة والنصوص

وعلى سبيل المثال، يعتبر تحليل ليفي ستراوس للأساطير، باعتباره لحظة فارقة في الأنثروبولجيا، وعتبة مؤسسة لدخول التحليل البنيوي إلى هذا الحقل. حيث اعتبر أن فهم الأساطير لا يجب أن يكون إلا باعتبارها تعبيرًا عن العلاقات بين الأنساق البنيوية. وفي محاولة فهمه لأنماط القرابة في المجتمعات "البدائية"، رأى أن الاختلاف بين تلك الأنماط، يشبه العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول، والأمر نفسه ينطبق على اختلاف الأساطير بين الثقافات. لكن ما هو ثابت هو ما يمثل عملية البحث عن المعنى وراء ذلك، والمعنى هو النظام أو العلاقات أو المشتركات، وليس العلاقة الاعتباطية[11].


المصادر:

[1] Sturrock, J. (Ed.). (1979). Structuralism and since: from Lévi-Strauss to Derrida (Vol. 71). Oxford: Oxford University Press

[2] Scholes, R. (1974). Structuralism in literature: an introduction (Vol. 276). Yale University Press

[3] De Saussure, F. (2011). Course in general linguistics. Columbia University Press

[4] Ibid.

[5] Ibid.

[6] Ibid.

 [7] Ibid.

[8] فضل، صلاح (1998). النظرية البنائية في النقد الأدبي. القاهرة: الهيئة المصرية للكتاب.

[9] Gutting, G. (2001). French Philosophy in the Twentieth Century. Cambridg.: Cambridge University Press   

[10] Arndt, H. W. (1985). The origins of structuralism. World Development, 13(2), 151-159.

[11] حمزة, عصام. إنصاف الإنسان البدائي.. ليفي شتراوس ضد العنجهية الحديثة. إضاءات. 5/12/2016. على الرابط: https://www.ida2at.com/fairly-neanderthal-levi-shtrwas-against-modern-arrogance/