21-أبريل-2022
يتضمن الرأي العام افتراضات بالتجانس بين الناس (تويتر)

يتضمن الرأي العام افتراضات بالتجانس بين الناس (تويتر)

تحول الرأي العام إلى ساحة صراع في العالم. على سبيل المثال، يمكن أن نرى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حرص على إظهار أن الرأي العام يدعم خطوته في غزو أوكرانيا، كما رأينا في أيام الحرب الأولى القمع الكبير للمظاهرات في موسكو، رغم محدودية حجمها، في محاولة من النظام لإظهار وحدة الموقف المؤيد لخطوته. في وجه آخر لاستقطاب الرأي العام، تمت عملية تجييش أوروبية أمريكية لدعم حملة مقاطعة روسيا، وتم تصوير الأمر في وسائل الإعلام وخطابات الساسة وبيانات المؤسسات الحقوقية على أنه رأي موحد، متفق عليه أخلاقيًا وسياسيًا، حتى عندما استدعى ذلك إغلاق والتضييق على مؤسسات إعلامية من قبل منصات مهيمنة وشركات كبرى. فما هو الرأي العام؟

الرأي العام في تعريفه الكلاسيكي، هو مجمل المواقف والآراء والتفضيلات التي يتبناها مجموعة من الناس داخل الدولة تجاه قضية أو جهة ما

يمكن القول إن الرأي العام في تعريفه الكلاسيكي، هو مجمل المواقف والآراء والتفضيلات التي يتبناها مجموعة من الناس داخل الدولة تجاه قضية أو جهة ما، مثل نظام الحكم وتوجهاته المتبعة في النواحي السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية. وهو يقوم على افتراض بوجود تشارك بين مجموعة من الناس، غالبًا في دولة أو إقليم، في الموقف ذاته من قضية واحدة أو عدة قضايا. وهذه الآراء والمواقف لا ترتبط بحقائق مجردة، لكنها ترتبط بقضايا تمس المجموعة التي تتخذها، من نواحٍ سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.

يتشكل الرأي العام عادةً، وفق هذا التصور، خلال نقاشات جماعية، سواء في الأحزاب أو مجموعات الضغط أو الشركات أو منظمات المجتمع المدني، أو النقابات العمالية، التي تعمل على فتح حوارات ونقاشات عامة أو تصدير مواقف في قضايا عامة، ليتم التحشيد للفكرة المراد تحويلها إلى رأيٍ عام، من خلال علاقات وموارد هذه التجمعات. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تلعب دورًا كبيرًا خلق أنماطًا جديدة من الرأي العام، من خلال احتشاد مجموعات كبيرة من الناس في مجموعات وصفحات تدعم أهدافها، أو القيام بالتغريد عبر وسوم مرتبطة بقضيتها، من أجل العمل على إبرازها ومنحها حيزًا من النقاش العام في المجتمع.

أما عناصر التأثير في الرأي العام، فترتبط بالخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، والأحزاب والنقابات، والأشكال الأخرى من التعبئة، بالإضافة إلى وسائل الإعلام التي تعمل على استمالة الرأي العام، تبعًا للجهة الداعمة لها. كما أن مجموعات المصالح تحاول التأثير في المجتمعات على القضايا التي تخصها وتمسها، وأيضًا النخب أو المؤثرين، ورجال الأعمال، وهي شخصيات بارزة في الحياة العامة تحاول رفع الاهتمامات ولفت الانتباه إلى قضايا معينة بما يتلاءم مع مصالحها أو تصوراتها. كما أن الرأي العام يمكن أن يتحفز بشكل عفوي لدى الشعوب، خلال الكوارث أو الحروب والأزمات الاقتصادية. ويلعب الرأي العام دورًا أساسيًا في العملية الديمقراطية، من خلال قدرة المواطنين على تكوين آراء تجاه القضايا، ولذلك تتحول عملية كسب الرأي العام إلى مجال للصراع في أحيان، بين الحكومة والمعارضة، أو الشعب والحكومة.

تعود جذور الرأي العام، في سياق الفكر السياسي الغربي، إلى أفكار جان جاك روسو ومنظري الثورة الفرنسية، إلا أنه في كثير من الأحيان ما تتم العودة من أجل تأصيله تاريخيًا إلى أعمال فلاسفة إغريق مثل أفلاطون وأرسطو، التي يمكن إيجاد مفاهيم شبيهة فيها. وغالبًا ما يُربط الرأي العام بالديمقراطية، بسبب أن إحدى طرق فحصه الأساسية هي الانتخابات، حيث تعتبر واحدةً من وسائل قياس الرأي العام تجاه الأحزاب والقيادات في الدول، وتكون نتائجها معبرةً عادة عن موقف الأغلبية من سياسات الحكم خلال الفترة التي سبقت الانتخابات، ومدى تمثيل الحكومة لها ولمصالحها. رغم ذلك لا يرتبط الرأي العام بالانتخابات فقط، ويمكن معارضة الحكومة أو النظام المنتخب ديمقراطيًا من خلال تجييش الرأي العام. كما أنه لا يرتبط بالدول الديمقراطية حصرًا، ولكن التنافس عليه موجود بين قوى وهيئات تتصارع على الشرعية في سياقات سلطوية.

أمّا الوسيلة الثانية لقياسه فهي استطلاعات الرأي العامة، التي تستخدم كأداة يعتبرها البعض علمية من أجل معرفة وجهات نظر الجمهور تجاه قضايا ومواضيع معينة، ويتم عادةً القيام بها من خلال الإنترنت أو المكالمات الهاتفية أو تعبئة الاستبيانات وجهًا لوجه. ويتم ذلك من خلال عينة يفترض أن يتم اختيارها عشوائيًا وأن تكون ممثلةً للمجتمع، وبناءً عليها يتم إجراء تحليلات النتائج، مع وجود هامش للخطأ يقدر عادةً بما نسبته 3%. وتظهر أهمية استطلاعات الرأي، بأنها تجرى دوريًا في الدول، من قبل وسائل إعلام أو مراكز أبحاث أو شركات، وتعمل على قياس الآراء السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتجرى عادةً بشكل دوري من أجل قياس التحولات التي تطرأ على الرأي العام. وفي المجمل تقدم الاستطلاعات آراء مجردة من خلال نسب وأرقام دون أن تقدم شروحًا حول أسباب هذه الاختيارات. وتمنح الاستطلاعات فرصةً تمثيلية للأشخاص العاديين في المجتمعات، لكنه يمكن التلاعب بها خدمةً لأهداف الوسيلة المنفذة للاستطلاعات.

ومن الأمثلة على ضغط الرأي العام على الحكومة، ما حدث في حرب أمريكا ضد فيتنام. فنتيجةً للمقاومة الفيتنامية التي قتلت عددًا كبيرًا من الجنود الأمريكيين، بالإضافة إلى حملات ضد الحرب، ساهم فيها مثقفون وإعلاميون ورؤساء تحرير عدة صحف أمريكية، تحولت معارضة الحرب إلى حراك اجتماعي كبير، ساهم في الضغط على الحكومة الأمريكية من أجل الانسحاب من فيتنام. ويمكن إيجاد مثال على فشل ضغط الرأي العام، في رفض الغزو الأمريكي للعراق، وبالأخص في أوروبا. فقد خرجت مظاهرة معارضة للحرب مكونة من 3 مليون شخص في روما وحققت رقمًا قياسيًا في أكبر تجمع مناهض للحرب في العالم، وتلتها العاصمة الإسبانية مدريد. كما تظاهر 100 ألف شخص أمام مبنى الأمم المتحدة في نيويورك وحوالي مليون في لندن، ضمن شبكة احتجاجات عالمية كانت من الأكبر، ورغم ذلك لم تستطع الضغط من أجل إيقاف الغزو أو منع الحكومات من دعمه، مثل الحكومة البريطانية على سبيل المثال.

انتقادات

مع تصاعد المدارس النقدية في علم الاجتماع والعلوم السياسية، تم التقليل من شأن هذا المفهوم، ومن وجاهة الافتراضات المحيطة به. على سبيل المثال، رأى مجموعة من علماء الاجتماع مثل الفرنسي بيار بورديو، أن الرأي العام هو مفهوم مضلل، وغير موجود بشكل موضوعي في العالم الاجتماعي، وإنما هو بناء لغوي يتم الاستشهاد به من أجل الصراع على الشرعية. كما أن المفهوم يتضمن نوعًا من العنف الرمزي، الذي يضع آراء جماعات معينة على أنها عامة، وجمعية، وذات أهمية أكبر، فيما يقصي آراء أخرى.

مع تصاعد المدارس النقدية في علم الاجتماع والعلوم السياسية، تم التقليل من شأن مفهوم الرأي العام، ومن وجاهة الافتراضات المحيطة به

كما أن بعض التصورات النقدية بشأن الرأي العام، ترى أن المفهوم نفسه يتضمن افتراضات ليبرالية غير واقعية، تدور حول الاعتقاد بأن السياسة تتشكل نتيجة لنقاشات اجتماعية وفكرية، وهي افتراضات تنكر بالتالي اللا مساواة في الحق في التعبير، والامتيازات الطبقية والتعليمية وغيرها. كما أن الافتراض بأن هناك رأيًا متجانسًا لجميع السكان في منطقة معينة، لا يبدو واقعيًا، وفوق ذلك، فإنه قائم على إقصاء جماعات بعينها وإبراز أصوات جماعات أخرى، مثل الذكور، وسكان المدن، والمتعلمين.. إلخ، وإقصاء أصوات النساء، والمثليين، والفقراء.. إلخ. كمثال على ذلك، فإن استطلاعًا للرأي يُجرى عبر الإنترنت أو الهاتف، قد يدعي تمثيل المجتمع جميعه بشأن قانون أو سياسة محددة أو شخصية، لكن القائمين عليه لن يأخذوا بعين الاعتبار آراء مئات آلاف الناس ممن ليس لديهم الوصول إلى الإنترنت أو خدمات الهاتف في هذه الدولة.