23-مايو-2023
مارك زوكربيرغ

صورة مولدة عبر نموذج الذكاء الاصطناعي (MidJourney)

أقدمت شركة ميتا (Meta) الأمريكية في شهر شباط/فبراير الماضي على خطوة أثارت الاستهجان والعجب داخل عالم الذكاء الاصطناعي المتغير والمتطور بسرعة؛ إذ قررت التخلي عن أثمن وأهم منتجاتها في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو نموذج "لاما" (LLaMA). في هذا المقال، نستعرض لكم السبب وراء هذه الخطوة وأبعادها في قطاع الذكاء الاصطناعي، بحسب ما يستعرضه تقرير نشر مؤخرًا على النيويورك تايمز


طورت شركة ميتا العملاقة، التي تملك شبكات التواصل الاجتماعي فيسبوك وإنستغرام وواتساب، نموذج ذكاء اصطناعي أطلقت عليه اسم "لاما" (LLaMA) ضمن تقنية قادرة على تشغيل مولدات المحادثة الآلية عبر الإنترنت. وأبت ميتا أن تحتفظ بهذه التقنية لنفسها، واستعاضت عن ذلك بنشر الكود الحاسوبي الأساسي للنظام وتوفيره لبعض المستخدمين، بحيث يكون بمقدور الباحثين الحكوميين والأكاديميين والأفراد الذين راسلوا ميتا عبر بريدها الإلكتروني تنزيل الكود حالما تنتهي الشركة من تدقيق هوياتهم. إلا أن الأمر انتهى بتسريب هذا الكود على بعض المدوّنات المفتوحة، واستحواذ آخرين عليه داخل الولايات المتحدة وخارجها. 

زكي وزكية الصناعي

ما فعلته شركة ميتا في المقام الأول هو إتاحة تقنية الذكاء الاصطناعي لديها للآخرين على أنها برمجية مفتوحة المصدر؛ والمقصود بهذا المصطلح هو الكود الحاسوبي الذي يستطيع الآخرون نسخه وتعديله وإعادة استخدامه دون أي قيود. وبهذا وفرت الشركة لهم الأساس اللازم لتطوير روبوتات محادثة آلية بسرعة كبيرة. وهنا يصرّح يان لي كان (Yann LeCun)، رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في شركة ميتا قائلاً: "المنصة المفتوحة المصدر هي التي سيكون لها التفوّق في سباق الذكاء الاصطناعي".

وفي حين تشتعل حمى التنافس بين كبرى شركات التكنولوجيا في وادي السيلكون لتحقيق الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي، تنتهج شركة ميتا نهجًا مختلفًا بانزوائها عن هذا السباق؛ إذ تنطلق الشركة من رؤية مؤسسها ورئيسها التنفيذي، مارك زوكربيرج، فتقرر أن أمثل الخطوات وأذكاها هو مشاركة محركات الذكاء الاصطناعي الأساسية مع الآخرين، فبهذه الوسيلة تبسط هيمنتها ونفوذها وتمضي مسرعة نحو المستقبل في نهاية المطاف.

كابدت شركة "ميتا" في الخفاء طوال الشهور الماضية لجمع خلاصة الأعوام الطويلة من الأبحاث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي، والإتيان بمنتجات جديدة

ومن البديهي القول إن أفعال ميتا تتناقض كليًا مع الإجراءات التي اتخذتها شركات منافسة مثل جوجل وأوبن إيه إي (OpenAI)؛ فهاتان الشركتان تقودان سباق التزود بتقنيات الذكاء الاصطناعي وتضمينها ضمن الممارسات اليومية لمستخدمي الشبكة، واللافت أنهما تفرطان في تكتمهما على الأساليب والبرمجيات والخوارزميات التي تقوم عليها منتجات الذكاء الاصطناعي لديهما، خاصة في ظل الهواجس والمخاوف بشأن استعمال روبوتات المحادثة الآلية في نشر معلومات مضللة، أو بث خطاب كراهية أو محتوى مسيء، حتى أنّه لا تتوفر معلومات شفافة حتى الآن بشأن النطاق الشامل للمدوّنات النصّية التي اعتمدت عليها الشركتان في تغذية نماذج الذكاء الاصطناعي لديها. 

ميتا الأمريكية

ولا غرو أن تعمد هاتان الشركتان، وغيرهما، إلى انتقاد ميتا متحججين بخطورة انتهاج نهج مفتوح المصدر وخالٍ من القيود. ويأتي هذا الأمر بعدما دقّ الصعود المتسارع لتقنيات الذكاء الاصطناعي ناقوس الخطر بشأن مخاطر هذه التكنولوجيا، لا سيما قدرتها على زعزعة سوق العمل إن لم تُنشر على النحو الأمثل. وما هي إلّا أيام قليلة تلت إصدار نموذج "لاما" حتى ظهر كود النموذج على موقع فورتشان (4chan)، وهو منتدى صور سيئ السمعة عبر شبكة الإنترنت ومعروف بنشر معلومات خاطئة ومضللة. 

وكان زوبين قرهماني (Zoubin Ghahramani)، نائب رئيس شركة جوجل والمشارك في الإشراف على أبحاث الذكاء الاصطناعي، قد علّق قائلًا: "لا بد لنا من التريث والحذر عند تقديم بعض التفاصيل أو إتاحة كود برمجي مفتوح المصدر، ولا بد لنا من سؤال أنفسنا عما يترتب على ذلك من مخاطر".

ولا ريب أن بعض المسؤولين في جوجل قد أسرّوا السؤال فيما بينهم إن كان استعمال الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر يشكل منافسًا محتملًا للشركة؛ ففي مذكرة داخلية عُمّمت هذا الشهر وسُرّبت عبر موقع (Semianalysis) الإلكتروني، حذر أحد المهندسين زملاءه من خسارة شركتي جوجل وأوبن إي أي لريادتهما في مجال الذكاء الاصطناعي بفعل ظهور برمجيات مفتوحة المصدر مثل"لاما"، أي النموذج الذي طوّرته شركة "ميتا". 

وفي المقابل لا ترى "ميتا" أي مسوغ يدعوها لأن تحتفظ بكودها البرمجي لنفسها دونًا عن الآخرين؛ وهنا يصرح الدكتور "لي كان" قائلًا إن التكتم المفرط الذي تنتهجه شركتا جوجل وأوبن إيه إي هو "خطأ جسيم" و"نظرة قاصرة لمجريات الأمور". ويرى "لي كان" أن المستهلكين والجهات الحكومية سيمتنعون جميعًا عن تبني الذكاء الاصطناعي إلا إذا كان بمنأى عن سيطرة الشركات الكبرى مثل جوجل وميتا. ويتساءل قائلًا: "أحقًا تريدون أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي كلها في قبضة شركتين أمريكيتين قويتين؟"

أوبن إيه إي تمتنع عن الرد

لم تأتِ ميتا بجديد باتباعها نهجًا مفتوح المصدر؛ فتاريخ التكنولوجيا حافل بالصراعات التنافسية بين الأنظمة المفتوحة المصدر وبين الأنظمة الحصريّة أو المغلقة؛ فبعض الشركات تحتكر أهم الأدوات المستعملة في تصميم منصات الحوسبة المستقبلية، في حين تيح شركات ثانية هذه الأدوات للآخرين. وفي الآونة الأخيرة أطلقت جوجل نظام تشغيل الهواتف الذكية أندرويد كنظام مفتوح المصدر، ساعية بذلك إلى إيقاف هيمنة شركة آبل على سوق الهواتف الذكية.

بودكاست مسموعة

وسبق لشركات عديدة أن شاركت تقنيات الذكاء الاصطناعي لديها على الملأ بفعل إصرار الباحثين على هذه المسألة، بيد أنهم بدأوا تغيير أساليبهم نتيجة السباق المتسارع في مجال الذكاء الاصطناعي. وظهرت بوادر هذا التحول في العام الماضي حينما أطلقت شركة أوبن إيه إي روبوت المحادثة الآلي تشات جي بي تي (ChatGPT)، الذي أدهش المستهلكين بنجاحه المدوي، وأذكى المنافسة في مجال الذكاء الاصطناعي، فسارعت شركة جوجل إلى دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في منتجاتها، وخصصت مايكروسوفت مبلغًا قدره 13 مليار دولار أمريكي للاستثمار في أوبن إيه إي.

وصحيح أن شركات جوجل ومايكروسوفت وأوبن إيه إي حازت معظم الاهتمام المتعلق بالذكاء الاصطناعي، بيد أن "ميتا" استثمرت في هذه التكنولوجيا طوال عقد من الزمن؛ إذ أنفقت الشركة مليارات الدولارات لتجهيز البرمجيات والمعدات اللازمة لتصنيع وتطوير روبوتات المحادثة الآلية وسائر أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، التي تنتج نصوصًا وصورًا ووسائط أخرى بمفردها.

وكابدت شركة "ميتا" في الخفاء طوال الشهور الماضية لجمع خلاصة الأعوام الطويلة من الأبحاث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي، والإتيان بمنتجات جديدة. ويضع السيد زوكربيرج نصب عينيه تحويل ميتا إلى شركة رائدة في قطاع الذكاء الاصطناعي، وهو إلى ذلك يعقد اجتماعات أسبوعية بخصوص هذه المسألة مع فريقه التنفيذي ومسؤولي هذا المنتج.

وما تزال شركة ميتا تفصح عن إبداء التزامها بمجال الذكاء الاصطناعي، إذ قالت مؤخرًا إنها صممت رقاقة حاسوبية جديدة، وأدخلت بعض التحسينات على حاسوب عملاق مخصص لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي. كما تعكف الشركة حاليًا على تطوير مركز بيانات حاسوبية جديد مع التوجه نحو إنشاء الذكاء الاصطناعي.

ويقول زوكربيرج: "عملنا منذ أعوام كثيرة على تشييد بنية تحتية متقدمة لتطوير وإنشاء نماذج الذكاء الاصطناعي، وبهذا العمل تتجلى مساعينا الطويلة التي تساهم في تقدم هذه التكنولوجيا واستخدامها على النحو الأمثل في جميع الأمور التي نفعلها".

وشهدت الشهور الماضية إقدام ميتا على أكبر خطوة في مجال الذكاء الاصطناعي لديها بإطلاقها نموذج إل لاما، وهو ما يعرف أيضًا بمصطلح نموذج اللغة الضخم (L.L.M). أما كلمة "لاما" (LLaMA) فهي اختصار لعبارة نموذج اللغة الضخم والذكاء الاصطناعي من ميتا). وعلى العموم تعرف نماذج اللغة الضخمة بأنها أنظمة تتعلم المهارات بفعل تحليل كميات هائلة من النصوص المتنوعة، مثل الكتب ومقالات موسوعة ويكيبديا وسجلات الدردشة وغيرها، وهي تشكل الأساس الذي قامت عليه مولدات المحادثة من "تشات جي بي تي" ونموذج "بارد" من جوجل (Bard).

وتعين نماذج اللغة الضخمة أنماطًا محددة في النصوص التي تحللها، وتتعلم طريقة إنشاء نصوصها المميزة، مثل منشورات المدونات وقصائد الشعر والأكواد الحاسوبية وغيرها، بل إنها تستطيع إجراء محادثات معقدة مع المستخدمين.

ميتا الأمريكية

أطلقت "ميتا" نموذج "لاما" للجمهور خلال شهر شباط/فبراير الماضي، فأصبح بمقدور الباحثين الحكوميين والأكاديميين والأفراد الذين راسلوا الشركة عبر بريدها الإلكتروني تنزيل الكود واستخدامه لتطوير روبوتات محادثة جديدة. بيد أن الشركة تجاوزت بأفعالها أنظمة الذكاء الاصطناعي الأخرى مفتوحة المصدر، فأتاحت للأفراد تنزيل نسخة النموذج بعد تدريبه على كميات ضخمة من النصوص الرقمية المستمدة من شبكة الإنترنت. ويطلق الباحثون على هذا الأمر مصطلح "تحرير معاملات الترجيح" (releasing the weights) مشيرين بذلك إلى قيم رياضية معينة يتعلمها النظام في أثناء تحليل البيانات.

ولا ريب أن هذا الأمر كان شديد الأهمية نظرًا لما يستلزمه تحليل البيانات الضخمة من مئات الرقاقات الحاسوبية وعشرات الملايين من الدولارات، وهي موارد ليست متاحة لدى معظم الشركات. فمن يمتلك معاملات الترجيح يستطيع نشر برنامج الذكاء الاصطناعي بسهولة وسرعة كبيرة وبنفقات زهيدة، وبذلك يدفع جزءًا يسيرًا من النفقات التي يتكبدها عادة لإنشاء برامج وأنظمة قوية كهذه.

ونتيجة لهذا الأمر يرى كثيرون في صناعة التكنولوجيا أن شركة ميتا أحدثت سابقة خطيرة في هذا المجال، خاصة أن أحدهم أدخل المعاملات ونشرها على منتدى "فورتشان" سيئ السمعة. 

كذلك عكف باحثون في جامعة ستانفورد على استعمال تقنية ميتا الجديدة لتطوير وبناء نظام ذكاء اصطناعي أتاحوه على شبكة الإنترنت، وسرعان ما عمد باحث في الجامعة، يدعى موسى دومبويا (Moussa Doumbouya)، إلى استعمال النظام في إنشاء نص إشكالي حسبما أوردت صحيفة نيويورك تايمز؛ وفي بعض الحالات قدم النظام إرشادات للتخلص من الجثث دون الوقوع في قبضة الشرطة، وأتى في حالات أخرى بتعليقات عنصرية فيها تأييد لآراء أدولف هتلر. واللافت أن السيد دومبويا قال في محادثة خاصة مع بعض الباحثين إن توزيع هذه التكنولوجيا للعامة أشبه ما يكون "بإتاحة قنبلة يدوية للجميع في محل بقالة".

وبطبيعة الحال سارعت جامعة ستانفورد إلى إزالة نظام الذكاء الاصطناعي من شبكة الإنترنت، وهنا قال السيد تاتسونوري هاشيموتو (Tatsunori Hashimoto)، الأستاذ في جامعة ستانفورد، إن هدف المشروع هو تزويد الباحثين بالتكنولوجيا التي "أحاطت بأفعال نماذج الذكاء الاصطناعي الرائدة"، وأردف هاشيموتو قائلًا: "ألغينا العرض التجريبي لتزايد قلقنا من احتمال إساءة استخدام النظام بما يتجاوز إطار البحث".

ويزعم الدكتور "لي كان" أن هذه التكنولوجيا ليست خطيرة كما تبدو؛ فقلّة هم الأفراد القادرون على إنتاج ونشر معلومات مضللة وخطاب مسيء باعث على الكراهية، وأشار أيضًا إلى قدرة وسائل التواصل الاجتماعي على تقييد هذا المحتوى المسيء والشنيع، ويقول لي كان: "لا يسعنا منع الناس من الإتيان بمعلومات خطيرة أو مضللة أو كلام مسيء وشنيع، ولكن يسعنا أن نحول دون انتشارها بين الناس".

شركة ميتا الأمريكية فيسبوك

وترى ميتا أن الإقبال المتزايد للناس على استخدام البرمجيات المفتوحة المصدر ربما يحقق التكافؤ في هذا المجال، خاصة أنها تتنافس على الريادة مع شركات جوجل ومايكروسوفت وأوبن إيه إي؛ فلو اعتمد كل مطور برمجيات في العالم على أدوات ميتا في بناء وتطوير البرامج، عندئذ لترسخت سمعة الشركة ومكانتها في الموجة التالية للابتكار، ولاجتنبت بذلك تهميشها المحتمل في هذه الصناعة.

إن تطور الإنترنت الاستهلاكي ما أتى إلا نتيجة معايير مجتمعية مفتوحة ساهمت في تطوير أسرع شبكة لتبادل المعرفة حول العالم وأكثرها انتشارًا على الإطلاق

ويستدل الدكتور لي كان بالتاريخ الحديث لتفسير أسباب التزام ميتا بالذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر، إذ يقول إن تطور الإنترنت الاستهلاكي ما أتى إلا نتيجة معايير مجتمعية مفتوحة ساهمت في تطوير أسرع شبكة لتبادل المعرفة حول العالم وأكثرها انتشارًا على الإطلاق. ويختتم كلامه بالقول: "كلما كان التقدم مفتوحًا للجميع، أصبح سريعًا. وهنا لدينا نظام شامل مفعم بالحيوية والنشاط حيث يستطيع الجميع المساهمة فيه".