07-يونيو-2020

باتريك زوسكيند

يرتبط ذكر باتريك زوسكيند بروايته الشهيرة "العطر: قصّة قاتل" بصفتها أوّل عملٍ يُصادف من يودّ الحديث عنه، أو القراءة له أيضًا. الكاتب الألمانيّ الذي توقّف عن الكتابة مطلع التسعينات، وتوارى داخل عزلته دون أن يترك عنوانًا له، كتب – عدا عن عمله الروائي الوحيد – قصّتين طويلتين هما "الحمامة" "وحكاية السيّد زومر"، بالإضافة إلى ثلاث قصص قصيرة ومسرحية وحيدة عَنونها بـ "الكونتراباص" (1980)، بالإضافة إلى كتاب بعنوان "عن الحبّ والموت".

عُرضت مسرحية "الكونتراباص" سنة 1984 أكثر من 500 عرض داخل ألمانيا، في 25 إخراجًا مُختلفًا

المسرحية التي عُرضت خلال سنة 1984 أكثر من 500 عرض داخل ألمانيا، في 25 إخراجًا مُختلفًا، أعادت "دار المدى" مؤخّرًا إصدارها بطبعة جديدة بترجمة المصريّ سمير جريس، بعد 15 عامًا على إنجازه للترجمة العربية الأولى التي أصدرتها "الهيئة القومية للترجمة" سنة 2005. هكذا، تُعيد "المدى" مسرحية زوسكيند، عربيًا، إلى الواجهة من جديد بصفتها أكثر النصوص المسرحية تمثيلية في ألمانيا، عدا عن أنّها تُجسِّد، برفقة "العطر"، فلسفة مؤلِّفها في الكتابة الأدبية.

اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. قصة مشّاء

الكاتب الألمانيّ المُقلّ في ظهوره والمتواري منذ التسعينيات، كتب في مسرحيته هذه، على مدار فصل واحد ومن خلال بطل مجهول الهوية، حكاية عازف كونتراباص نتعرّف إليه في ذروة حيرته لجهة تحديده لطبيعة علاقته بآلته الموسيقية التي يُحبّها من جهة، ولكنّه يُدرك، من جهةٍ أخرى، أنّها السبب في بقائه في الصفوف الخلفية، مُهمَّشًا وقابعًا في الظلّ، تُسيِّرهُ مشاعره الموزّعة على الحبّ والكراهية في وقتٍ واحد، عد عن يقينه بأنّه لا وجود لأوركسترا دون الكونتراباص، وأنّ يقينه هذا لا يصنعُ فارقًا يُذكر، ولا يبدو كافيًا ليضعهُ في الصفوف الأمامية للأوركسترا، وجعله مرئيًا.

بموازاة حكاية العازف المجهول، شيَّد زوسكيند حكايةً أخرى لآلة الكونتراباص التي قدّمت نفسها باعتبارها آلة موسيقية تدفع بعازفها إلى الخلف دائمًا، وتضعهُ داخل شعورين متضاربين، أي الحبّ والكراهية، حيث يولد الأوّل من قناعة العازف بأهمّية آلته داخل الأوركسترا، تلك الأهمّية التي يأبى بقية العازفون الاعتراف بها لأسباب عديدة: "كيف ستؤاتى عازف الكمان الأوّل الجرأة على الاعتراف بأنّه، من غير كونتراباص، سيقف على المسرح مثل القيصر بلا ملابس – رمز ساخر لانعدام الأهمّية والاختيال في آنٍ واحد".

أمّا الشّعور الثاني، أي الكراهية، فيولد من إبعاد الكونتراباص لعازفه عن الصفوف الأولى باتّجاه الخلف، حيث الهامش تمامًا: "في بعض الأحيان تنهض الأوركسترا كلّها، ولكن حتّى عازف الكونتراباص لا يستطيع النهوض بطريقة لائقة". هكذا، ستكون الآلة، في نظر العازف، أشبه بـ"آلة مخنثة. في الأسفل مثل كمان كبير، وفي الأعلى مثل آلة غامبا كبيرة. الكونتراباص هو أفظع آلة موسيقية (...) خليط ممسوخ من آلات عدّة".

في مسرحية باتريك زوسكيند، يكون الكونتراباص جزءًا من شخصية عازفه المُجبر بسببه على العيش مغمورًا، في الظلّ تمامًا

ولكنّها، في الوقت نفسه، ستكون حاضرةً في حياة العازف كشخصية من لحمٍ ودم، لا بإرادته، وإنّما بإرادتها "في البرد يعوّج. عندئذٍ يحتاج، على الأقل إلى ساعتين قبل العزف حتّى يتأقلم على درجة الحرارة" يضيف العازف: "مرة تعطّلنا في الطريق بسبب عاصفة ثلجية. ساعتين ونحن ننتظر خدمة إصلاح السيارات. تخلّيت عن معطفي له. دفأته بجسدي. في الكونسير كانت درجة حرارته مضبوطة، أما أنا فكانت بذرة الأنفلونزا قد نبتت داخلي".

اقرأ/ي أيضًا: باتريك زوسكيند.. انعزاليون في عالم عدائي

هكذا، تتماهى الألة مع عازفها المتنقّل بين محبّتها وكرهها، حيث يستعيد من خلالها ذكريات مضت سنعرف من خلالها أنّه اختار الفنّ بسبب كراهيته لوالده، وخروجًا عن رغبته بأن يكون موظّفًا، وثأرًا من أمّه التي عشقها: "أغتصب أمي يوميًا في شكل الكونتراباص، أضخم الآلات الموسيقية الأنثوية". بهذا الشكل، يكون الكونتراباص جزءًا من شخصية عازفه المُجبر بسببه على العيش مغمورًا، في الظلّ تمامًا، دون القدرة على مغادرة هذه المساحة، حيث يكون العزف "تشويه ذاتي"، وتكون الأصابع أيضًا سميكة لدرجة أنّها لا تُقارن بأصابع الحدّاد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"عن الحب والموت".. باتريك زوسكيند في مطبخ الشيطان

السحر وامتلاك العالم