29-يونيو-2017

باب الحارة الجزء التاسع

لا يزال المخرج، قبل أن يصبح منتجًا، بسام الملا، صاحب شركة "ميسلون"، ينبش في تاريخ حقبة مقاومة السوريين للانتداب الفرنسي، وينهل مع كتبة السيناريو من حفريات التراث الشامي العتيق ليقدم وظيفته السنوية الممثلة بسلسلة "باب الحارة" بعد أن صارت أشهر من النار على العلم.

سيل الانتقادات الذي طال الملا لتواصل سلسلة باب الحارة لم يمنعه من الاستمرار في هذه المهزلة الدرامية مع إسقاطات مفضوحة

سيل الانتقادات الذي طال بسام الملا منذ إعلانه عودة المسلسل للظهور في الجزء السادس عام 2014، الجزء الذي كان من المفروض أن يكون الأخير عرض عام 2010، لم يمنعه من الاستمرار في هذه المهزلة الدرامية. وهذا سؤال يجب أن يكون محط إثارة عن سبب هذا الإسهال في تصدير بيئة عافها أجدادنا قبلنا نحن جيل الوجبات السريعة، فتحولت مع مرور الوقت لنوستالجيا مرضيّة باستذكار معالم مدينة لم يبقَ منها شيء على حاله من قريب أو بعيد.

اقرأ/ي أيضًا: صناعة "الدراما" في سوريا لصمود النظام

إذا أحصينا أعمال البيئة الشامية في الموسم الرمضاني لهذا العام، نجد أنها لم تقدم قصًة جديدة، أربعة من أصل خمسة تتمة لأجزاء سابقة، يتصدر قائمتها "باب الحارة" بأجزائه التسعة، وعشرات الشخصيات المتوفاة أو المقتولة، أما العمل الذي غرد خارج سرب الأجزاء المتسلسلة فكان مسلسل "وردة شامية"، إلا أنه لم يقدم على صعيد الدراما الشامية فكرة بسبب اقتباسه عن القصة الشهيرة "ريا وسكينة" مع إضافة بعض التوابل غير الموجودة في القصة الأصلية، حرف الواو المحذوف بين الاسمين للنسخة السورية جاء باجتهاد من المؤلف.

في استرجاع لشريط الأعوام التي أعقبت وراثة بشار الأسد بطريقة الاستفتاء للسلطة عن والده بداية الألفية الجديدة، وبالتحديد منذ عام 2005 – 2010 كانت هنالك أعمال اجتماعية مختلفة على صعيد الأفكار، حملت في مضمونها إشكالية لاقاها المتفرج بإيجابية. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: "غزلان في غابة الذئاب"، "عصي الدمع"، "على طول الأيام"، "الانتظار"، "يوم ممطر آخر"، و"ليس سرابًا"، ساعدت على تقليص الاهتمام الشعبي بالأعمال الشامية قبل أن تعود للتكاثر بعد عام 2011، حيثُ كان التوجه خلال تلك الفترة منصبًا على تقديم النظام بصورة ديمقراطية للعالم العربي، أو الذي عرف بين الأوساط الثقافية بأنه تجاوز للخطوط الحمراء، وهنا لا نحاكم القائمين عليها إنما نطرح كيف كان النظام السوري يفكر خلال تلك الفترة. على أية حال جردة سريعة لتلك السنوات تذكرنا بأن الموقعين على إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي حكم على نصفهم بالحبس خمس سنوات بتهمة التآمر على النيل من هيبة الدولة.

الحديث الأخير لـ"عكيد" باب الحارة السابق عن أن السلسلة تكتب داخل أروقة النظام السوري ليمرر فيها أجندات سياسية لم يكن غريبًا

الحديث الأخير لـ(عكيد) باب الحارة السابق سامر المصري، الذي تم تداوله بأن السلسلة تكتب داخل أروقة النظام السوري ليمرر فيها أجندات سياسية للعالم العربي لم يكن غريبًا. من شاهد الأجزاء الثلاثة الأخيرة، ومعها الرابع الذي انتهى عرضه قبل أيام، يدرك فداحة التحريف الذي يعتمده القائمون على المسلسل. فالعمل قبل أن يكتب داخل أروقة الأفرع الأمنية، استسهل في الاقتباس لدرجة استعارته فكرة الأنفاق التي كسر بها الفلسطينيون حصار غزة عام 2006، وتقديمها في أحد الأجزاء بإدخال الطحين عبر النفق للحارة بعد أن حاصرها الفرنسيون، فكرة صغيرة نطرحها من اقتباسات متعددة.

الجزء الحالي لم يخرج عن مضمون ما استبقه من أجزاء، وآزره رد كاتب الجزء الأخير سليمان عبد العزيز على سؤال مرتبط بغياب اسم الشاعرة السورية ماري عجمي (1888 – 1965) بقوله "كانت هناك أيضًا أم عصام التي وقفت مع الثوار ضد المحتل الفرنسي"، فهو على حد وصفه لنفسه "لا أتقيد بالتاريخ بل ألامسه، ففي الجزء الثامن تحدثت عن لواء اسكندرون"، الذي كان ممنوعًا ذكره حتى ما قبل منتصف آذار/ مارس 2011.

اقرأ/ي أيضًا: النظام السوريّ يحوّل "أبو عصام" إلى فيمينيست

طبعًا هذا رد من كاتب (مثقف) على غياب شخصية كان لها دور في النهضة الثقافية النسائية تمثل بإصدار أول مجلة نسائية "العروس" عام 1910، والنادي الأدبي النسائي الأول من نوعه عام 1920، بينما اقتصر دور صباح الجزائري (أم عصام) على اللطم والردح من قوانين الاستعمار الفرنسي الجائرة، الشيء الجيد لشخصيتها في هذا الجزء إضافة العكاز الخشبية، وحفاظها على حياتها الزوجية لأنها تملك في رصيدها طلقة واحدة بعد أن طلقها أبو عصام مرتين في الأجزاء السابقة، ودائمًا التبرير لضرورات درامية.

ويلفت في العمل أيضًا شخصية "رئيس جمهورية الحارة" أبو عصام، إذ على مدى الأعمال الشامية منذ "أيام شامية" مطلع التسعينات كانت شخصية الحلاق مختزلة على أنه إنسان سطحي التفكير، متمسك بماله، متعدد الزوجات، لا نهائي في الثرثرة المجانية، لكن مع الملا وأعوانه تحول الحلاق لمثقف فرانكوفوني، قارئ أثناء الأكل، ميسور الحال لديه أموال لا تنتهي يصرفها على فعل الخير، استعاض عن النارجيلة بالتدخين عندما يتعمق في البحث عن جذور الحل لأحد المشاكل، يدافع عن القوانين الوضعية قبل الشرعية، وله نظريات سياسية تطلب من سياسيي الأحزاب المثقفين منع الشباب من التظاهر ضد الاحتلال لأنها لن تساعد على تغيير الحال، يمكنكم مراجعة الدقيقة 35:00 من الحلقة الثالثة. من الجيد أنه لم يطلب الشباب للتظاهر شكرًا لله على نعمة المطر. أتمنى إن كان هناك جزء عاشر أخذ فكرة ظهور رسائل متبادلة بين أبو عصام وسيمون دي بفوار على أساس أنهم أصدقاء بعين الاعتبار، ويفضل أن يكون أحد المنظرين لانتفاضة الطلاب الفرنسيين في أيار/ مايو 1968.

مع الملا وأعوانه تحول الحلاق لمثقف فرانكوفوني، له نظريات سياسية ليتحول العمل بتناقضاته إلى استغباء للمشاهد

وغابت القصص المعتادة عن نميمة النساء، ليتصدر بدلًا عنها القانون ثم القانون ثم القانون، وتحوّل مصطفى الخاني (النمس) لروبن هود، أو صعلوك الحارة، يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، المنظمات غير الحكومية (NGO) بصورة الجمعيات الخيرية، الهاتف، واعتياد الأهالي على رؤية النسوة ليس غير المنقبات فحسب إنما السافرات أيضًا بعد أن أحدث أبو عصام في الجزء السابق ثورة نسوية داخل المجتمع المحلي المحافظ جدًا، تزوج من فرنسية، وابنه تزوج من سارة اليهودية، وسمح لابنته بخلع النقاب، كما أنه تخلى عن شيخ المسجد في عديد القضايا المستهجنة ضمن بيئة يوصف إسلامها بالشعبي المتوارث.

إذن، بهذه الحبكة المشابهة لفقرة "التضليل الإعلامي" التي بثتها قناة "الدنيا" مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية المناوئة للنظام السوري انتهى الجزء الأخير لـ"باب الحارة" دون ظهور أي علامات تشير لإغلاقه نهائيًا، فهو حتى في تقديمه للحداثة التي دخلت على المجتمع السوري في تلك الحقبة كان ساذجًا لدرجة يمكن القول إنها تستغبي المتفرج، الذي بدأ يتأفف من الموت السريري للدراما العربية عمومًا، وانتقل للفرجة على الدراما الغربية بعد أن فقد الأمل من ظهور عمل واحد مختلف، صحيح أن الهدف من الدراما في النهاية التسلية لكن ذلك لا يعني أن تكون بهذا القدر من الاستخفاف بعقول المشاهدين لتمرير أجندات أصبحت النسبة العظمى على دراية بها.

اقرأ/ي أيضًا:

الدراما السورية منشغلة بالتطرف

باب الحارة... "العرصات" تتكاثر