27-يونيو-2021

بابلو بيكاسو

رجل برحم أنثى، أنجب الفن بعدما كان وليدهُ وربيبه ابتداء، فراح يُكنى بأبي الفن الحديث. ذلك وميض بيكاسو الذي ما فتئ يخطف لباب العالم، منذ نعومة أظفاره وكلمتهُ الأولى "قلم رصاص". فتناول ذاك القلم بيمينه، وحبا في بيئةٍ خصبة ومشجعة للفن بفضل والده الذي عمِلَ أستاذَا للفن.

كما وليم شكسبير في الأدب، وسيغموند فرويد في علم النفس، كان تأثير بيكاسو على الفن الحديث هائلًا

لوّن بيكاسو جداريات قرنين متتاليين، بغزارة وفرادة وجرأة، حتى لُقِبَ بدافنشي القرن العشرين. كان وما يزال بنظر النقّاد ساحرًا، إذ يراوغ الجمهور ويغير كلّ شيء حوله بلمسة بل ويغَيّر نفسه. فكما وليم شكسبير في الأدب، وسيغموند فرويد في علم النفس، كان تأثير بيكاسو على الفن الحديث هائلًا.

اقرأ/ي أيضًا: بيكاسو مظلّلًا بنسائه

ربما سر تألقه كونهُ روح حرة ذات أسلوب إبداعي غريب، يمضي مسلحًا بالتجاهل التام لما يعتقدهُ الآخرون عن فنه. "كلّ شيء يمكنك تخيلهُ، هو حقيقي".

لكن حتى في بداية مشواره الذي اتسم بالواقعية، المتأصلة في والده والذي سقاها اياهُ بالتعليم، ومحاكاة التقاسيم البشرية لنماذج حية وأخرى جصية. كان بابلو معجزة فنية بقميص مخطط ونظرة ثاقبة، تترجم الحياة بلوحات تجعل الأرواح والأفواه فاغرة، أمّا العيون تُصلّي مع التفاصيل الصغيرة. وهذا ما يعايشه المرء عند التحديق في لوحته "العمة بيبا" 1894 التي أنجزها وهو بعمر الثالثة عشرة، والتي عُدَّت أحد أفضل الصور في التاريخ الإسباني.

كان قبول ذي الست عشرة ربيعًا في الأكاديمية الملكية سان فرناندو مُسّلمًا به، والتي تُعد حينها المدرسة الفنية الأولى في مدريد. لكنه رأى فيها سجنًا يخنق عبقريته، لذا كان يفر منها إلى باحات متحف برادو، ويستغرق في لوحات غويا وغريكو.

سرعان ما طوّر بيكاسو واقعيتهُ، واستلهم تأثيرات رمزية، شاقًا بها الطريق نحو الحداثة، موجّهًا أجنحته نحو باريس، ليبدأ مشورًا من شقاء، أحتطب فيها أعماله في بعض الأحيان، لتدفئة شقة أقتسمها مع صديقه الشاعر الباريسي ماكس جاكوب. وبغضون أشهره الأولى هناك، زار هذا المتعطش جميع المتاحف، ودرس روائع العظام أمثال فان كوغ، غوغان، ديلاكروا، تولوز لوتريك وغيرهم. كان يصب اهتماما جمًا على الفن المصري، الفينيقي، النحت القوطي والرسم الياباني.

لخصتْ لوحة "الحياة" خلجات نفس بيكاسو، من تأنيب ضمير وجلد للذات، لابتعاده عن صديقه في أحلك ظروفه

وكأن خواء معدتهُ لم يكن كافيًا، فجاء خبر انتحار صديقهُ كاساجيماس كمحبرة اندلقتْ على مخيلته لأعوام (1901-1904) والتي سُميت بالفترة الزرقاء أفرزت نتاجًا كئيبًا. متسولون ومساجين، جياع ومنفيون، مومسات لا يغطي عريهن سوى الانكثام، عيون متحجرة وشفاه واجمة، سديم الأسى يتربع على رئات لوحاته، أجساد منزوية ووجوه هاربة. وجاءت تحفتهُ الحياة "La Vie"، لتكون من النوادر التي لديها القدرة على ابهار الناظر، وإرباكه وتحديه نفسيًا، وتحييده عن تفضيلاته الشخصية. لوحه لخصتْ خلجات نفس بيكاسو، من تأنيب ضمير وجلد للذات، لابتعاده عن صديقه في أحلك ظروفه. فرسمه مكللًا بالقوة، محاطًا بحنان الأم وبراءة الطفل، ومطوقًا بهيام الحبيبة المخلصة، وبالقرب منهم رسم أشباح ناحبة خائفة.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يحبّ الآسيويون بيكاسو إلى هذا الحد؟

ومن سيرك ميدرانو في باريس، انبثقت لوحات لبيكاسو، احتلها مهرجين وراقصات ألوان مشرقة ومهرجانات. آخذًا بيده أنامل فرناندا أوليفيير نحو مبنى نصف مدمر، بسلالم مظلمة وممرات متعرجة. أجلس فيرناندتهُ وسط معقله، لتكون نموذجه الفني للعديد من لوحاته المشهورة فيما بعد. عاشا بوهيمية متفائلة، ظهرت بمرآة فنه بشكل ما عُرف لاحقًا بالفترة الوردية (1904-1906). وهنا بدأت الأنظار تحملق بأيائله المتقنة، واحداها كانت لوحة "Boy with a pipe"، والتي اختلفت التفسيرات حولها، لكونها سهل ممتنع يسوعي. جمعت بساطة المراهق المشرد، متوجًا بإكليل وأجنحة ملائكية موردة. وحركة متشنجة ليسراه التي حملت الغاليون المشاكس.

بينما كان بابلو يتمعن بسحنة وجه جيرترود شتاين، وقد أصيبت ريشته بالإعياء، كما سيقان المرأة المسنة، من الغداة والرواح على مرسمه لعامٍ كامل. وجدَ نفسه يفر من قيود الكلاسيكية، نحو فضاءات التصويرية وتشويه الشكل. وفي المتحف الأنثروغرافي في تروكاديرو للفنان بول سيزان بذكرى وفاته، تقابل بيكاسو وجهًا لوجه مع التماثيل والأقنعة الأفريقية. فبدأت رقصة وبالتالي فترة جديدة هي الفترة الأفريقية (1907-1909). تراقصت فيها أيديولوجية بيكاسو المؤمنة، بأنّ الفن فوق كلّ شيء آخر على الدوام، مع السحر الأفريقي القديم، الذي خاطب قوى الطبيعة والأرواح المعادية والمؤاتية والمؤثرة على لغز الحياة.

فبدأ بمزج المعالجة العالية الأسلوب للشخصية البشرية للمنحوتات الأفريقية، مع أنماط الرسم المستمدة من أعمال ما بعد الانطباعية لسيزان وGaugium. وكان هدفه هو خلق وهم ذي حيز ثلاثي الأبعاد، تسكنه كائنات مشوهة، على سطح القماش ثنائي الأبعاد! تمخض عن ذلك تحفتهُ (Les Demoiselles d'Avignon). التي تصور خمس نساء متجرّدات، مع وجوه مستوحاة من النقوش الأيبيرية والأقنعة الأفريقية. قام فيها بالابتعاد الجذري عن الرسم الأوروبي التقليدي، من خلال تطويع البدائية والتخلي عن منظور السطوح ثنائية الابعاد. مستبدلًا الولع بتصوير الجسد الأنثوي المتأصل في فناني العصور السابقة بتشوية كامل لهندسة أبعاد الجسد. عُدَّ هذا التشويه في بادئ الأمر عمل معادي للنساء، وجوبِهتْ اللوحة برفض حاد من قبل أول المشاهدين. ثم تجمهرتْ حولها العيون، لتصفها بأنها اللوحة الأكثر إبداعًا في تاريخ الفن الحديث. مسلحًا بالاستراتيجيات الجديدة، نأى بيكاسو بنفسه عن القيود الفرنسية الكلاسيكية، وشق طريق حريته نحو ثورته الكبرى.

بألوان محايدة وأسلوب يتحرى تفكيك الأشكال وتحليلها، ثم يعود لتجميعها وتوليفها بهيئات أكبر وأكثر زخرفية، بدأ بيكاسو ثورة تغييرهُ في الفن الحديث، أو ما عُرِفتْ بالتكعيبية (1909-19019). جاءت رسوماته موحلة بالتحليلات الهندسية بعيدة عن الواقع المادي. وهذا ما أكدهُ بقوله ((التكعيبية لم تكن سوى فن من أجل الفن)). تعد التكعيبية وهي صنيعة مخيلة بيكاسو و جورج براك، حركة فنية رائدة، غيرتْ وجه الفن والأدب والموسيقى والعمارة المعاصرة. ثم اتبعها بابتكار اسلوب الكولاج، وذلك بأن أستخدم مواد غير مطروقة، كأوراق الصحف وأغلفة التبغ والحبال وقصاصات التذاكر أو قطع أثاث بالية، تتكاتف مع مساحات مطلية، في أعمال فنية ثلاثية الأبعاد أذهلتْ العالم.

بألوان محايدة وأسلوب يتحرى تفكيك الأشكال وتحليلها، ثم يعود لتجميعها وتوليفها بهيئات أكبر وأكثر زخرفية، بدأ بيكاسو ثورة تغييرهُ في الفن الحديث التي عرفت بالتكعيبية

اقرأ/ي أيضًا: العثور على لوحة لبيكاسو سرقت قبل 20 عامًا من يخت ملياردير سعودي!

من أزقة إيطاليا ونوافيرها نبعتْ كلاسيكية جديدة لبيكاسو، كسر بها حداثته المتطرفة، وباتَ يذكرنا برافاييل. ثم مزج ذلك بالسريالية فبزغت رائعتهُ (Guernica). لتمثل أقوى بيان مناهض للحرب، وإدانة للفاشية في الفن الحديث. اختار فيها وقع داكن للون أحادي، ليرمز إلى الأوقات العصيبة والألم. صوّر فيها مخلفات الحرب المترسبة في عيون وحناجر ضحاياها، سواء من لقوا حتفهم أو من ينتظرون. لوحة بشكل مشهد تراجيدي واقعي، أجاد إخراجه. ركز فيه على الحياة المتبقية في آثار حوافر الموت.

مضتْ سنو بيكاسو الأخيرة كخليط من مجمل أساليبه التي أعتنقها في فترات حياته السابقة، ولكن مع جرأة لاذعة لجعل المنحوتات أكبر والألوان أغزر. قام بإعادة فحص وتجسيد أعمال كلاسيكية مهمة مثل "Diego Velazquez". أبرز أعماله لهذه الفترة "Massacre in Korea" و"Las Meninas".

ارتحل بيكاسو عن عالمنا 1973 عن عمر يناهز 91 عامًا. تاركًا خلفه بصمته كعبقري ثوري وتقليدي في آن واحد، امتدت مسيرته المهنية حوالي 78 عامًا. أبدع فيها 13500 لوحة، و100000 مطبوعة ونقش، و34000 رسم توضيحي.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تقنية الكولاج وليدة شغف أم نزعة هروب؟

العودة إلى الالتزام