09-يونيو-2016

(Getty)– بصراحة، لا. أنا لا أشعر بشيء، ولا أعرف بماذا علي أن أشعر. هل عليّ أن أحزن؟ أو أغضب؟ أو أتألم؟ أو أندم؟

كان يجب عليّ أن أموت اليوم. ليس الأمر أني أردت ذلك، ولكن هذا ما أخبرني به قاتلي البارحة. لقد جاء إلى منزلي وقال لي أمام أهلي وضيوفنا الذين كانوا حاضرين في ذلك الوقت بأني سأموت غدًا، وهو يقصد اليوم طبعًا.

أنا الآن ملقىً على الأرض والدماء تنفر من جسدي. لقد متّ قبل بضع دقائق، وأحاول أن أقول كلمتي الأخيرة لكني أتيقن مع مرور الثواني أني لا أملك شيئًا كي أقوله. أيعقل أن تمرّ حياة وتنتهي من دون أن يتمكن صاحبها من اقتناء عبرة منها؟ هل كانت حياتي إلى هذه الدرجة خاوية؟

قرأت مرة بأن الإنسان يصبح حرًا عندما يعرف ساعة موته، هل الأمر كذلك؟ هل أنا حرّ؟

لا أعرف، أنا ميّت الآن ولا أعرف إن كنت أشعر بالحرية أو إن كنت أشعر بأي شيء. كل شيء يبدو باهتًا بالنسبة إلي وغير مهم. لا أهتم بالدماء التي تلطخ ملابسي ولا بالناس المتجمعين حولي وهم يرونني ملطخًا بالتراب والدماء. لا أكترث لدموع أمي أو صراخها الآن، وحتى والدي الذي لم أره باكيًا في حياتي، لا أعير دموعه أي بال. أظن أن الموت جرّدني من إنسانيتي.

حين جاء قاتلي وأخبرني بالأمر، بكت أمي كثيرًا، وتوافد الناس إلى بيتنا لتوديعي. كان الأمر مزعجًا قليلًا، حتى طلب مني والدي أن أغادر البيت لبعض الوقت كي أتصالح مع موتي.

خرجت من البيت ومشيت بلا هدى، كيف يمكن للمرء أن يتصالح مع موته؟ أنا لا أدري حتى إن كنت غير متصالح مع موتي. هذه مشاعر معقدة، ولا أظن أن ساعات قليلة كافية لاستيعاب الأمر أو إدراك كنهه.

جلست على الكرسي في ساحة البلدة، وتأملت في الظلام. كانت ليلة هادئة والقمر مثلي وحيدًا. فكرت في أشياء كثيرة، لكن ما يثير استغرابي الآن هو أني لم أفكر حينها في الأمور التي سأفتقدها بعد موتي، وحتى هذه اللحظة لا يشغل بالي المستقبل الذي لن أحصل عليه، بل كل أفكاري مركزة على هذه الليلة، الليلة الأخيرة في حياتي.

مضى بعض الوقت حتى سمعت صوتًا قريبًا مني. لقد كان هو، قاتلي. جلس إلى جانبي. تنهد تنهيدة عميقة، ثم قال:

– ما الذي تفعله هنا؟ لماذا لا تودع ناسك؟

– لقد ودعت الكثير منهم، لكن والدي أخبرني أن أخرج من البيت قليلًا. ربما أرادني أن أتصالح مع موتي.

– كيف يمكن للبشر أن يتصالحوا مع موتهم؟ هل تصالحت مع موتك؟ هل وصلت إلى نتيجة ترضيك؟

– بصراحة، لا. أنا لا أشعر بشيء، ولا أعرف بماذا علي أن أشعر. هل عليّ أن أحزن؟ أو أغضب؟ أو أتألم؟ أو أندم؟

– أعتقد أن الحزن هو الأنسب بالنسبة لحالتك.

– ولكني لا أشعر بالحزن. الأمور تختلط على عقلي. الحزن يحتاج إلى صفاء أنا أفتقد إليه في هذه اللحظة.

ساد صمت قصير بيننا. كان لكلماتي وقع كبير عليّ. لم أكن أعرف أني بحاجة إلى حزن وصفاء إلا بعد أن نطقت بهذه الكلمات. أما هو فكان يفكر بحلّ لمعضلتي، إذ إنه نهض بعد دقائق وحثني على اللحاق به. لم أعرف وجهته إلا حين وصلنا.

أجل، بائعة الحزن هي الحل. لم أذهب إليها قبلًا، ولكن الكثير من الناس ثمّنوا عملها. ويبدو أن قاتلي أيضًا قد جرّب سحرها. 

طرقت باب بيتها، ومضت دقائق قليلة قبل أن تفتح العجوز الباب. نظرت إلينا مليًا ثم أفسحت لنا الطريق كي ندخل.
– هذا على حسابي!

تنحى بالعجوز جانبًا ودفع لها النقود، ثم دخلت الأخيرة غرفة جانبية، وجلسنا أنا وهو في غرفة الجلوس بانتظارها. قال لي فجأة:
- أنا أحسدك. أنت بحاجة إلى الحزن فقط كي تجتاز محنتك بينما سأستمر أنا ومشاعر الغضب والألم والنصر تنهش نفسي.
وقبل أن أقول له شيئًا، خرجت العجوز من الغرفة وطلبت مني الدخول.

أغلقت الباب وتركتني وحيدًا مع الفتاة. كانت جالسة على فراش على الأرض، وبدت منهكة ولا تقوى على النظر باتجاهي، بل كانت عيناها ساهيتين عن وجودي. جلستُ قبالتها وتأملت وجهها الجميل.

يبدو غريبًا الآن أني لا أتذكر وجهها، لقد نسيته فور خروجي من الغرفة مع أن سحره لم يبارح عقلي بعد، فقد كان أجمل وجه رأيته في حياتي. جمالها كان طاغيًا ونافذًا وحزينًا. بعد دقائق من تأملي لها اهتز جسدي كله وبدأت بالنحيب. كان بكاءً متواصلًا حزينًا مثل عينيها. ارتفع صوت نحيبي ومع ذلك لم تشعر بوجودي، بدت لي وكأنها تحت مخدر ما. وهل يهم ذلك؟ لقد جئت أشتري الحزن منها، وقد أعطتني منه ما يكفي لأختم به حياتي. جمالها هو ما أعطاني الحزن. جمالها كان حزينًا.

خرجت من الغرفة بتثاقل، ولم تتوقف دموعي إلا حينما غادرت المنزل كله، ولفني ظلام الليل. كنت قد سهيت عنه تمامًا، ولم أنتبه إلى وجوده إلا حين أمسك بيدي. التفتّ نحوه ووجدت انعكاسًا لدموعي في عينيه. اقترب مني وطبع قبلة حزينة على خدي ثم همس في أذني:

– ليت الأمور جرت بصورة مختلفة!

وابتعد عني واختفى في الظلام. لم أره إلا في صباح اليوم التالي، هذا اليوم، حين قتلني. كان مختلفًا، قاسيًا ومصممًا، وأنا أيضًا لم أشبه ذلك الشخص الذي كنته البارحة، فقد كنت أكثر صفاء ووحدة. هكذا هي الأمور لا تكون النفس صافية ورائقة إلا عندما تكون وحيدة.

ابتعد عن جثتي بعد قتلي، وإن بدا للجميع منتصرًا، فأنا أعلم أن الأمر غير ذلك في دخيلته.

اقرأ/ي أيضًا:

شيزوفرينيا

في مهب الحرب