19-يوليو-2016

( Kursat Bayhan/Getty) رافضو الانقلاب في اسطنبول

ليس عيبًا أن تعيش مجريات الأحداث وسط المعمعة ولا تتمكن من نظرة مجردة لحقيقة ما حصل، وليس عيبًا أن ترد ما جرى إلى إرادة السماء، وحفظ الآلهة لعبدها المصون، وهذه التدوينة بعيدة كل البعد عن ذلك. ففيها قراءة -أظنها- واقعية لجملة من المعطيات، بعين مجردة راقبت محاولة الانقلاب في تركيا عن بعد.

الأعداد الهائلة للمعتقلين لا تعكس بالضرورة الإعداد المحكم للانقلاب، فمن الواضح أن أردوغان قرر القضاء على الكيان الموازي، قبل أن يقضي عليه

خلال آخر 10 سنوات شهدت تركيا 5 محاولات انقلابية على الأقل، ولم تصل كلها لمرحلة نزول الجيش إلى الساحات خوفًا من ردة فعل الشارع، حيث لم تكتمل الخطوات التحضيرية الضرورية وأهمها اغتيال رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أو إيقافه. القوى السياسية التي تبنت بعض العمليات، أو دعمت خطوات تحضيرية لأخرى فضحت في التحقيقات ودفعت ضريبة ذلك في الاستحقاقات الانتخابية التي تلتها، فتلاشى بعضها وانخفضت شعبية البعض الآخر.

محاولات الاغتيال تعددت ولعل أبرزها ما اشتهر بعملية القفص في 2009، واستهداف عناصر من "بي كا ك" لموكب أردوغان في 2008، إضافة إلى طرق بيضاء استعملتها "الجماعة" في أكثر من مناسبة، كان آخرها فضيحة ديسمبر 2013.

نجاة أردوغان في كل مرة كانت تزيده قوة وتمنحه الضوء الأخضر لتصفية وفضح خصومه. وهو ما يتجلى مليًا في حملة الإيقافات الواسعة التي تشهدها تركيا هذه الأيام، فالمحاولة كانت جدية أكثر من أي وقت مضى، وفاضت الكأس بما حدث من إراقة دماء بريئة، ودُحر الانقلاب في مهده، قبل أن يمر لمراحل أكثر جدية، فقُدر الحيز الزمني الذي فصل نجاح الاغتيال من عدمه بحوالي٤٠ دقيقة.

اقرأ/ي أيضًا: ديمقراطية على المآذن! 5 دروس من الانقلاب التركي

الوثائق أكدت أن خطة الانقلابيين تغيرت وسارت في غير ما كان مقدرًا لها، بسبب تعنت رئيس هيئة أركان القوات المسلحة التركية خلوسي أكار والذي رفض توقيع البيان الانقلابي وتواصل مع قائد الجيش الأول أومود دندار لإعلامه بما يحصل، دندار تواصل على الفور مع الرئيس التركي ونبهه بالخروج من فندقه بمرمريس والتوجه لمطار إسطنبول حيث وعده بتوفير الحماية اللازمة، وذلك قبل أن يستنجد أردوغان -بأسلوب فريد- بالشعب التركي وشرفاء الأمن والجيش ليضعوا حدًا للمهزلة متوعدًا في الوقت ذاته الفاعلين بأشد العقاب.

وهنا لسائل أن يسأل، لماذا لم يتواصل أكار مع أردوغان بشكل مباشر؟ لأنه كان رهن الإيقاف يقولون. ولكن هل كان اتصاله بقائد الجيش الأول دندار بغرض إعلامه أو استقطابه لصف الانقلاب كما يقول البعض؟ أسئلة ستتوضح حقيقتها مع الوقت خاصة وأن أكار اكتفى بظهور تشريفي في اليومين الأخيرين ولم يصدر منه أي تصريح، فيما يبدو أنها إجراءات احترازية.

التقييم السليم لأي فشل، ينطلق من تحديد الخلل وتدارك الهفوات وتراجع العديد من قيادات الانقلاب بدعمهم للشرعية إثر أول ظهور لأردوغان، يعبر عن ثقة مهزوزة بالنفس، سببها الأساس عدم التحضير الجيد لمختلف السيناريوهات، فالارتباك بدى واضحًا على الانقلاب بعد انطلاقه قبل ساعة الصفر. أشرت حينها في تغريدة أن مؤشرات فشل الانقلاب أكثر من بوادر نجاحه.

لا وزير دفاع، لا رئيس أركان، لا قائد الجيش الأول، لا وكالة الأنباء الرسمية، لا بيان مصور، لا احتجاز لرئيس الوزراء، لا دعم من المعارضة، رئيس دولة طليق ويصرح مرة واثنين وثلاثة. انقسام عسكري، حتى حين.

كما أن البيان رقم 1 الصادر عن الجيش نشر بطريقة هاوية عن طريق إيميل، بعد اختراق موقع هيئة الأركان ومن ثم تعطله، ولم يحمل توقيع رئيس الهيئة الذي رفض كما ذكرنا. كما أكد تسابق الجنود في الوصول لمقرات الإذاعة والتلفزيون -في تسريب محادثات الواتس آب- إدراك هؤلاء أن معركة الإعلام الرسمي كانت لتحسم الوضع حينها، ووصلوا فعلًا، ولكن سرعان ما التحق بهم رجال هاكان فيدان، كلمة السر في إفشال جل الانقلابات ورأس جهاز المخابرات التركية.

قد يعتقد البعض أننا نغفل في حديثنا هنا، الشعب وقوى المعارضة ودورها في إجهاض الانقلاب. قطعًا لا، ولكن العامل الأساسي، كان إحباط محاولة الاغتيال ومجهودات الأجهزة الأمنية، التي كانت في سباق مع الزمن للمحافظة على أجهزة الدولة، ودفع العشرات منهم حياتهم ثمنًا لذلك. ولعل أحد أبرز هؤلاء هو عمر خالص دمير سكرتير قائد قوات المهام الخاصة وقصة استشهاده بمبنى القوات الخاصة بأنقرة.

بالعودة إلى دور الساسة، فقد كان لبياناتهم الأثر الكبير في توحيد الحشود الغاضبة التي خرجت أساسًا رفضًا للانقلاب، ودونت حينها:
"رئيس البرلمان وقوى المعارضة في تصريح مباشر يؤكدون تمسكهم بالديمقراطية، نعم الديمقراطية السبب الرئيس لما نراه من هبة شعبية، لا لشخص أو حزب أو فئة، وإنما قيم مشتركة تشبع منها الشعب التركي خلال عقدين وآمن بأنها السبيل الأنسب للتغيير والتداول على السلطة، مخاض عسير خاصة بعد أنباء عن إطلاق نار على بعض المتظاهرين بإسطنبول".

وعي الشعب التركي وإيمانه بأسس الديمقراطية ليس بجديد، فقد ترسخت هذه المبادئ في محطات سابقة. ومحاولة الانقلاب على إرادة ناخبين يعرفون جيدًا مزايا النظام الديمقراطي من ازدهار اقتصادي ينعكس أساسًا على حياتهم الاجتماعية، محض غباء. فحتى الغاضبون منهم على الحكومة وسياساتها لا يمكنهم التفريط بمزايا النظام، والعودة إلى ظلمة حكم العسكر.

في الجزء الثاني سأتحدث عما كانت تعرفه أمريكا عن الانقلاب؟ من المستفيد الأول مما حصل؟ ماهي الانعكاسات الداخلية والخارجية لذلك في الأمد القريب؟ أين داعش من كل هذا؟

اقرأ/ي أيضًا:
الجدول الزمني لصعود وهبوط الانقلاب في تركيا
الفارق الجوهري بيننا وبينهم