14-نوفمبر-2015

ستعود الحياة رغم الألم (محمود زيات/أ.ف.ب/Getty)

المشهد 1

السادسة إلا ربع مساء الخميس: يصنع الحيّ الضيّق غوايته بتلاصق أكتاف العابرين فيه، وازدحام المارّة، وامتداد أصواتهم على طول الشارع المكتظّ بالسيارات ونداءات البائعين، وضحكات الأولاد وهم يهربون بين الأزقّة. شارع حي السكّة الممتد من منطقة برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت. حين كانت الأصوات والأضواء والرائحة الموسومة بالحيّ والضجيج الذي لا خلاص منه يصنعون لخلفيّة المكان إلفته. كان يطلع صوت "دعاء كميل" من مكبّرات الصوت في حسينية الإمام الحسين، وكان هناك مصلّين آمنين.

المشهد 2

السادسة مساء الخميس: خرج الضوء عميقًا وانفجر.

المشهد 3

السادسة والربع مساء الخميس: هلع. لا شيء بعدها يصلح لأن يكون في الخلفيّة غير هذا الهلع. لا أضواء كالتي تصنعها النار وهي تلتهم أجساد الناس. لا حرارة كالتي في الدماء على الجلد والإسفلت. لا ضجيج كصراخ المفجوعين. لا وحشة كالذي يشدّ بيديه على صدر عزيز حتى لا تطلع الروح في ما يذهب الأخير عنه إلى الأبد. الآن وفي هذه اللحظة، يذهبون عنهم إلى الأبد.

المشهد 4

الرابعة عصر الجمعة: "من أين تخرج هذه الرائحة الكريهة؟ من أين ولا خلاص منها كيفما ذهبت؟"، تقول البنت وهي تهرول على الأرصفة في حيّ عين السكّة ـ ضاحية بيروت الجنوبية، حيث دوى انفجار ضخم. فيعبر أمامها شاب على دراجته النارية ويرمقها بنظرة عتاب "هذه رائحة الجثث"، فترتجف البنت وتُغلق عينيها وتشدّ على صدرها حتى تشمّ الرائحة هذه المرّة عن قصد.

شارع عين السكّة الطويل هو حيّ سكنيّ وسوق شعبيّ معروف في الضاحية تقصد الناس أسواقه من السادسة صباحًا

شارع عين السكّة الطويل هو حيّ سكنيّ وسوق شعبيّ معروف في المنطقة. تقصد الناس أسواقه من السادسة صباحًا ولا يرحلون عنه قبل الثانية عشر ليلًا. اعتاد السكان أن يكون مكتظًا طوال الوقت، ولم يكن يخطر في بال أحدهم، أن هذه العشرة الطيّبة التي بنوها مع جيران الحيّ والسوق والغرباء الوافدين إليه، قد توقعهم يومًا فريسة قاتل بهذه السهولة وقساوة القلب. حتى انتهى بهم يوم أمس بفاجعة كبيرة. "لم نكن نراقب الناس، كنا نرحب بالجميع، ودائمًا ما يصير الغرباء يقصدوننا دائمًا حتى يصيروا أصدقاء الحيّ، لأننا نعرف بعضنا البعض ونحفظ وجوه الجدد ونحب الجميع هنا" يقول أحمد صاحب السنترال المتضرر من التفجير. يلتفّ الحيّ على زواره في الأيام العادية فيُلهيهم به وبواجهات محاله وبأسعار بضاعته الزهيدة. هذا الحيّ الحاضن هامد الآن، مؤلم وحزين. 

المشهد 5

الزينة على الأرض، الجدران سوداء، الألواح الخشبية استُعين بها لنقل الجرحى، الزجاج محطّم، وصاحب الفرن استشهد. يقف العامل على باب المحلّ ويراقب الناس. وجهه شاحب وصوته يتهدّج بدمعه. "كنّا نعمل أنا وصاحب الفرن على ديكور المحل لمدة شهر ونصف تحضيرًا للافتتاحيّة التي كانت مقررة يوم السّبت. وقع الانفجار وطار نصف جسد الانتحاري إلى باب الفرن. صرخت حين رأيت النار قد فعلت فعلها بصاحب المحل، لم يعد المحل ولم يعد شيء هنا".

المشهد 6

امرأة خمسينية تروح وتجيء في الشارع على عجل، تصرخ لجيرانها على الشرفات، أو ما تبقّى منها، لتطمئنّ على سلامتهم. تحكي وتلهث، من ثم تضع يدها على قلبها محاولة التقاط جملها جيدًا "نزلت إلى السوق قبل التفجير بقليل، لكن ما إن سمعت الصوت رجعت إلى البيت. أنا لا أصدق كيف عرفت الرجوع إلى البيت ولم أخطئ وأكمل طريقي حيث اشتعال النار وامتداد ألسنة اللهب إلى مكان قريب منّي. لم يكن هاتفي معي وخفت أن يظن أولادي أن مكروهًا أصابني". تقول المرأة إن المكان الذي يطوّقه الشبّان ويتكوّرون حوله حيث يضيئون الشموع لأجل الضحايا، "كان يقابله محل ذهب صينيّ وإكسسوارات جميلة تجذب الفتيات، كان يعجّ بالزبائن. استشهد صاحب المحل والفتاتان العاملتان فيه". لكنها ترمي جملة كمن يحرر حمامةً بيضاء من كفّيه، "سيعود الحيّ إلى الحياة".

المشهد 7

الخامسة والنصف مساء الجمعة: رجل وحيد يحمل صورة شهيد. قريب له. يمسكها ويشدّ عليها بأصابعه، يرفعها، يتعب، يضمها إلى صدره، من ثم يرفعها. تقترب الكاميرا منه فيدني الصورة إلى العدسة، ولا يتكلم. يدلّ على الوجه الذي في الصورة بعينيه. يدلّ عليه ولا يتكلم. من ثم يضمّ الصورة إلى صدره ويُكمل طريقه بمفرده.

اقرأ/ي أيضًا:
نوستالجيا في مدينة الخامسة صباحًا
لبنان.. موسم الهجرة مِن الشمال