01-سبتمبر-2017

الكابوس هنري فوسيلي/ بريطانيا

اليوم ليس سوى يوم كسائر الأيام... لا جديد. فما زلت أستيقظ في كل صباح واقفًا خلف تلك النافذة أتأمل ما حولي، ولا أجد أمامي سوى شجرة ضخمة يحيطها فراغ امتد وسع الأرض. كل شيء بدا كما يبدو كل يوم على ما يرام، كل شيء مملٌ من شدة شبهه للمألوف، لكنه شعوري الذي بدا مغايرًا للمألوف! اليوم وفي جو ضبابي كهذا، أحسست بالغربة، وبأن أحداث اليوم هذا ستكون شاذة عما ألفته سابقًا! وعلى الرغم من ذلك قررت كعادتي في كل يوم، أن أتجاهل حديث النفس وأعود إلى مزاولة ما كنت أفعله في الأيام السابقة...أن أعيش!

خرجت من المنزل في هذا الجو الضبابي، مخترقة ألسنة من الهواء التي أثارت بدورها رعشة من الاحتراق فيّ، ماذا يحصل؟! سرت ببطء أراقب الجموع من الناس حولي، الجميع يتحادث ويضحك، كل شيء لا زال يشبه ما كان عليه.

وصلت إلى منعطف الطريق، وكانت "ذات" تقف هناك... وحيدة، أين العجيب في هذا؟ فتاةٌ هامشية حكم عليها أن تبقى وحيدة، فالجميع نعتها بألفاظ نفتها من الوجود تمامًا. ففي كل مرة يحاول أحدٌ أن يسألها عن ماهيتها، فتجيبه بدورها بـ أنا أنت! نعتوها بالجنون.. بالتوحد.. وعلى الرغم من كل ذلك كانت ولازالت هنا بدورها، عند نفس المنعطف من الطريق.. تقف وحيدة!

شدني وجودها، بدت لي اليوم مختلفة! صورةٌ شبه متلاشية، كأنها عقدت صفقة مع الضباب وطلبت منه احتضانها لتتبخر ويصبح كلاهما كائنًا كثيف الشكل، سهل العبور... ولكنه مرئي!

كانت تراقب الجميع، كأنها تنتظر مغادرتهم المكان... لم تنتبه لوجودي! رأيتها وبعد أن خلا المكان من وقع الأقدام، تسير نحو الأشجار الكثيفة –الغابة المحرمة- بيد أن دخولها لمكان كهذا أقرب إلى الجنون! فكل ما حدّث عنه ما كان بالحسن، حيث أن البعض يقول: إن كل من وطأت قدمه حدود تلك الخضرة المعتمة... لم يعد! وانتهى مصيره إما بالتلاشي مع ذرّات الهواء، أو باحتضان أديم الأرض له، ولكن الأكثر جنونًا من كل هذا أنني تبعتها، أردت أن أعرف حقيقة الشخص القابع خلف وجه بلا ملامح.

تابعت "ذات" توغلها في عمق الغابة، بدت لي كالروح السائرة في أحد الشرايين، قاصدة مركز قوتها، القلب! لم تبد تائهة، بل شخصًا ألف المكان منذ زمن بعيد. بدأ المكان يعتم، والجو بدأ بالتغير، حيث أصبح المكان بارداً أكثر مما هو عليه في الخارج، كأن الأرواح آتية لتشهد على فناء القربان الذي هو على وشك أن يقدم، فهناك حيث وقفت "ذات" أمام كوخ هرئ أحيط بطوق من الأشجار الكثيفة، التي بدت كأنها حارسٌ له في هذه البقعة من الأرض، ما الذي تريده "ذات" من هكذا مكان؟!

دخلت" ذات" الكوخ، وأنا بدوري اقتربت أكثر لأشاهد ما يحصل في الداخل.  فاختلست النظر من شباك الكوخ الخلفي، لأبصر ما أصبحت عليه "ذات". رأيتها واقفة هنالك في منتصف الكوخ، تنتظر شيئًا على وشك الحدوث، تمامًا كالمذنب في لحظة إعدامه.

خيّل لي أني رأيت مرآة تنبثق من باطن الأرض، مستقرة أمام كيان "ذات"! بدت المرآة غريبة غير مألوفة، فحدودها كانت جذور الأشجار غير منتظمة وشائكة، بعضها خشن والآخر ناعم، آخذة شكلًا بيضاويًا، ويتوسطها سطح بلوري منعكس. كان انعكاس المرآة صافيًا، ولكن في الوقت الذي نظرت "ذات" فيه إلى المرآة، بدأت السطوح البلورية بالتشقق، كالأرض الجافة المحرومة من مطر السماء ورحمتها.    

 سمعت "ذات" تقول مخاطبة المرآة: إلى متى؟ ما عاد بوسعي الانتظار أكثر! فانتظاري لم يكن بالقصير ولا بالطويل... بدا لي كلحظة جمدت، وكنت أنا المنسية فيها! أصبحت السجن الذي أعيش فيه... في الوقت الذي أنشد فيه خلاصي! فإن كان الفناء هو الخلاص... فما بوسعي سوى أن أمنحه موافقتي. كانت دموعها تذرف في الوقت الذي كانت تقول هذا كله، لكنها لم تبد بالكائن الضعيف... بل كانت منكسرة! ما كان بوسعي سوى مناداتها بـذات إثر دهشتي! ورنين صوتي قد وصل أذنيها، حيث أن الدهشة قد تملكتها عند ما علمت أن دخيلاً مثلي قد اقتحم خلوتها.

بيد أن الأوان قد فات، حيث انصاعت لها تلك القوى الخفية بلا أي نية في التراجع، فبالنسبة إليها كانت "ذات" هي القربان المنتظر منذ الأزل! وأما "ذات" فكانت كمن سلم بأمره للآخر... ولكن دون خوف! بدأ جسد "ذات" يصبح أشبه بالطين اليابس المنكسر، الذي بدأ يتحول إلى غبار ومن ثم... إلى فتات! أول ما تفتت من جسدها كانت أوصالها، وتدريجيًا إلى أن وصل إلى رأسها، ولكن وقبل أن تنتهي لحظة رحيلها، نظرت "ذات" إلي بعينِ ذرفت دمعةً واحدة، وبسمةٍ اعتلت شفتيها للمرة الأولى مذ عرفتها، ومن ثم نظرت للسماء معلنةً آخر مشهد تبصره عينيها... وتفتّت!!

لكن انعكاسها كان لايزال موجودًا على المرآة منكسرًا، بدا لي كأن فتاتها كله قد اندمج مع انكسار المرآة ليبقي أثرًا على "ذات" وتصبح هي بدورها سجينة للمرآة، و سرعان ما بدأ هو بدوره يتفتت، ولكن قبل أن يخرج الفتات من مكانه، بدأت الأرض باستعادة جذورها المطوقة للمرآة بابتلاعها إياها وضم ترابها على بعضه، قاضية بذلك على آخر ما تبقى من "ذات".

بدأت الأرض تهتز، والكوخ بدا على وشك الانهيار. فما كان بوسعي سوى الهروب والابتعاد جزعًا مما أبصرته عيناي، ولكن وقبل مغادرتي للمكان، ألقيت آخر نظرة على "ذات"، أو حيث كانت "ذات". وبدأت أركض بأقسى ما أوتيت من سرعة... ما الذي حصل للتو يا ترى؟! أي نوع من الجنون هذا؟!

بدأ المطر بالهطول، على الرغم من أن الضباب كان يشتد كثافة... أتبكي السماء فرحًا أم حزنًا؟! إن كان فرحًا، فلماذا تلك النار لا تزال تتلظى في داخلي... بل وتشتد! يكاد الهواء ينفذ من صدري. بكيت وركضت كالتائه الذي أضاع طريقه، لم يكن لي وجهة معينة، كأنني كنت أسير في حلقة مفرغة داخل أرض محرمة، ولكن حين وصلت إلى حدود الغابة لم تأتني القوة لمغادرتها! أيا ترى سميت بالمحرمة لأنها هكذا، إما أن تبتلع من يدخلها أو تكبل أطرافه مانعة إياه مغادرتها؟!

استطعت الخروج من حدود الغابة، وكانت الشوارع قد امتلأت بقطرات المطر، مشكلةً بحيراتٍ صغيرة من المياه، التي وفي كل مرةٍ أنظر إليها أجد انعكاسي منكسرًا تمامًا كانعكاس "ذات". وحين أمر بالقرب من الدكاكين والمحلات، من خلال زجاجها أجد انعكاسي منكسرًا تمامًا كانعكاس "ذات"، لكن الأفجع من هذا كله، أنني حينما بدأت أنظر إلى وجوه المارة، الجميع يحمل ذات الانعكاس المنكسر... انعكاس "ذات".

بقيت أردد في ذهني بأنني أحلم، وليس هنالك وجود لشخص اسمه "ذات"، وأنني في لحظة وأخرى سأستيقظ من هذا الكابوس لأجد أن كل شيء لا زال على ما يرام وفي الوقت الذي أنظر فيه إلى المرآة، لن يكون هنالك أي أثر لـ"ذات"! لكن الكذب على النفس ليس بالمحبّذ، فأنت تصنع للوهم جسدًا! ففي الوقت الذي وصلت فيه إلى المنزل، هرعت متجهًا إلى غرفتي ونظرت في المرآة، ومن ثم إلى الغرفة الأخرى لأنظر أيضًا إلى المرآة، وانتهى بي المطاف إلى أن وصلت إلى الحمام ونظرت إلى المرآة، فما رأيت أمامي سوى انعكاس "ذات".

بدأت أصرخ، ضجيج صوتي عمّ المكان، لكن لم يسمعه أحد. وفي الوقت الذي حاولت فيه أن ألمس انعكاسي المنكسر في المرآة، بدأت أوصالي بالتفتت، وتطايرت تمامًا كما حصل مع "ذات"!!

 

اقرأ/ي أيضًا:

مع الجدار، وبكامل العري

وقت مع مهند يونس