17-أغسطس-2021

الشاعرة والفنانة رولا الحسين

من بعض أعمال الليل ثمة عمل لم يستطع التقدم التقني تغيير وظيفته، إلا وهو إخفاء وجوهنا. في أوروبا، لقرون خلت، كان الرجال والنساء يذهبون إلى حفلات ماجنة، وهم يضعون أقنعة على وجوههم. في تعبير لا لبس فيه على أن صاحب الوجه القناع وصاحبته متوافران للمتعة. الليل، قبل إضاءته بالكهرباء، كان دائمًا بلا وجوه. وغالبًا ما كان الناس يتجنبونه بوصفه مُلك اللصوص والحراس والمجرمين. فيما أن الناس يخفون وجوههم في عتم المنازل ليلًا ويعودون لإشهارها في النهار.

ومع أن الليل حجاب للوجه، فإنه غالبًا ما كان تحريرًا للجسم من قيود الوجه وسلطته

إنما مع ذلك، ومع أن الليل حجاب للوجه، فإنه غالبًا ما كان تحريرًا للجسم من قيود الوجه وسلطته: الخجول يمكن أن يحوله العتم إلى ماجن، والجسم المقيد بالفم والعينين، يصبح مع غياب الضوء قادرًا على إتيان الخوارق، وبعض هذه الخوارق عياء اللسان تمامًا، وفقده القدرة على التعبير.

اقرأ/ي أيضًا: تحمل حقيبتها على كتفها وتغادر كحلمٍ قصير

على هذه الثنائية الأزلية يمكن حمل الفوارق الناتئة بين صور رولا الحسين ورسوماتها. تصور نهارًا، وهذا أمر نسبي، وجهها وهو يدعو الآخر إلى الليل، وترسم ليلًا، وهذا اصطلاح نسبي أيضًا، فناجين قهوتها المتوحدة، وجسمها المتكسر، والمتحول إلى كتلة مطواعة من اللحم الآدمي، لا قدرة لها على السعي أو تطلب الرغبة أو حتى الصراخ آن يعيا اللسان. أي شياطين تسكن في ليلها؟ وكيف يستطيع شخص ما أن يراقب جسمه وهو منفصل عنه إلى هذا الحد؟

ما أن يخلو الإنسان إلى نفسه، ويفكر ويتذكر، حتى يكاد يقترب من الانتحار قصدًا. نحن كائنات لا تحتمل العيش في ذكرياتها. كلنا مسيئون، وكلنا فوتنا فرصنا تمامًا، ولا نأمل في تحقق فرصة ثانية. والراجح أن الفنانين، وهم يعملون على أعمالهم الفنية، يحاولون الاعتراف والبوح بشيء مما في أنفسهم. لكنهم غالبًا ما يتركون الجوهري سرًا يخشون افتضاحه. وبعضهم لا يفعل إلا محاولة طمس هذا الجوهري تحت طبقات اللغة والصور. الشعراء غالبًا ما يدّعون أن حبيباتهم قد جعلت حيواتهم قابلة للاحتمال. يبالغون في المديح، ونعذرهم نحن القراء، لأننا نفكر أن ما يعلنونه بهذه السذاجة الطافحة، هو بالضبط ما نشعر به نحن حين نقع في الحب. نقع في الحب لأننا نظن أن الحياة غير ممكنة قبل أن يصنعها المحبوب ويؤثثها. والشعراء واقعون في الحب دائمًا. أو هكذا نحسبهم، ونتواطأ معهم لأننا مثلهم نخشى أن ننظر إلى أنفسنا، حين نختلي بأنفسنا.

رسومات رولا الحسين، تبدو كما لو أنها من صنع شخص آخر. في حين أن صورها تبدو على الدوام دعوة للآخر لتحمل مسؤولياته الأخلاقية عن هذا الكائن الذي لا يعيش إلا بالتواصل مع الآخر. وهذا شأننا جميعًا مع صورنا إلى هذا الحد أو ذاك.

نحن كائنات لا تحتمل العيش في ذكرياتها. كلنا مسيئون، وكلنا فوتنا فرصنا تمامًا، ولا نأمل في تحقق فرصة ثانية

اقرأ/ي أيضًا: الفنانة التونسية ريم سعد: أن تحمل دفترًا هو أن تحمل نفسك

اللوحات التي تصور فيها جسمها، ووحدتها، تخالف كل منطق صورها. جسمها الذي في اللوحات لا يسيطر على وجهها، كما هي الحال في أعمال الليل، لكن وجهها أيضا ليس وجه من يريد التواصل. إنه أشبه بوجوه المطلوبين الذين يرسمهم مصورو الشرطة. وجه يفقد قدرته على أن يكون وجها، بالمعنى الذي تقترحه اللغة الفرنسية للوجه، أي أنه مرئي ورائي. إنه باختصار شكل بلا ملامح. وهو بذلك يتحول قناعًا. لكنه هذه المرة لا يترك مهمة التعبير للجسم بل يتحد معه في إنشاء منطقة صامتة، تكاد تشبه سجنًا قصيًا، أو كائنًا يعيش وحده على جزيرة ضائعة.

 

رولا الحسين كاتبة ورسامة لبنانية. خريجة معهد الفنون الجميلة. مواليد 1978. إصداراتها: روايتان "حوض السلاحف" و"بعد ظهر يوم أحد". وأربع مجموعات شعرية: "كوكب الأوقات القصيرة" و"نحن الذين نخاف أيام الآحاد" و"أتحرّك فقط ليكنسوا الغبار تحتي" و"اترك ورقة باسمك وعنوانك ولونك المفضَّل". لديها مشاركات قليلة في معارض فنية جماعية. مقيمة حاليًا في إسطنبول.

 

اقرأ/ي أيضًا:

شوقي شمعون.. سماءٌ مزهرة

أعمال منصور الهبر.. أن ترسم ما ألمَّ بك