24-يناير-2019

هذا الجيل الثائر في السودان لن يهزم بسهولة (أ.ف.ب)

لا بد أن يكون الرئيس عمر البشير، قد أدرك بعد شهر من الانتفاضة ضده، أن هذا الجيل لا يقهر، وأن ترسانة القوة لا يمكن بأي حال أن تقمع الأصوات الحرة والمطالب والهتافات لأجل يوتوبيا ما تؤرقها. ولا بد أن يكون قد أدرك أيضَا، أنه حصّن سلطته بالرصاص واحتقار الشباب، ولم يحصنها بالعدل؛ لذا اهتزت من الوهلة الأولى.

بعد شهر من الانتفاضة ضده لا بد أن يكون البشير قد أدرك أنه حصّن سلطته بالرصاص واحتقار الشباب ولم يحصنها بالعدل، فاهتزت من الوهلة الأولى

ثمة طبيب قُتل بالرصاص الحيّ ولحق به مهندس وعشرات الشباب فقدوا أرواحهم لهدفٍ واضح. رحلوا كالنوار خِلسةً، بعد أن أظهروا وجهًا من البسالة، ومنازلة الردى، على النحو الذي صوره شاعرنا صلاح أحمد إبراهيم لمّا قال: "ما الذي أقسى من الموتِ؟ فهذا قد كَشفْنا سرّه، وخَبَرنا أمرَه، واستسغْنا مُرّه".

اقرأ/ي أيضًا: الرصاص الحي يفجّر غضب الشارع السوداني

كل ذلك رأيته في طريقي للمعتقل نهايات ديسمبر/كانون الأول؛ رأيت تجار الدولار يتجشأون الأزمة، ورأيت صفوف الخبز والوقود تتمدد كثلاثة عقود من العجز الرسمي، ورأيت السيارات البرجوازية تنزلق من الطرقات، والناس غارقة في تفاصيل حياة راكضة يتبدد فيها الزمن بلا جدوى. ورأيت وجوه الشهداء تتلألأ فوق نجيمات بعيدة، ورأيت وجه أمي وقد استبد بها القلق، أعرفها من رجفة في القلب.

في بلاط السجن كان يستلقي آلاف اليائسين مقابل كل واحد يرعب الأثرياء ونخبة السلطة وزبانيتها، مقابل كل صوت هنالك سوط وبمبان ويدٌ على الزناد، يا إلهي ماذا فعلنا؟

انسلخت من عمري بضع وثلاثون عامًا، فكبرت، وجيلي أيضًا كبر. جيلي هربت به الطائرات بعيدًا، واستعمرته الهواتف الذكية، فكل واحد يهتف بحقه المسلوب: أريد أن أعيش حرًا كريمًا، وأمتلك منزل وسيارة كأبسط ما يمكن أن يتمناه المرء. الشعب مسكين يا سعادتك، خدمات الصحة أسعارها مرتفعة، والتعليم غير مجاني، والوظائف ذهبت مع الريح.

وما يفاقم مأساتنا بخلاف الأطفال الذين اندلقوا من ظهورنا، حتى قبل أن نفكر في شراء الحفاضات لهم؛ هو هذا الزمن المُهدر وراء لقمة العيش المريرة، والمكتبات المدمرة، وشارع النيل، والمقاهي المغلقة. المدينة كلها اليوم تغني وترقص"الليلة تسقط بس".

وإذا تحدثنا عن الفساد والمحاباة واختطاف البلد لصالح طاولات القمار السياسي، قالوا إننا نشوه الرموز. ما المشكلة في تشويه الرموز؟ أنا شخصيًا أكره الرموز وأشعر أنهم مجرد أكاذيب. لا أحد منا يحب النظام بالطبع، ولا أحد يثق في المعارضة، تستو أصنام البؤس في ذاكرتنا، فلماذا لا نحكم أنفسنا لوحدنا مثلًا؟

نحن يا سادة نركض باستمرار، متمسكين بآخر محاولاتنا في أن نكون بشرًا من دم وإحساس، نعتلي مراكب الهجرة المتهالكة، ونقطع نفق "المانش والكاليه" الأوروبي بعناد دونه الموت.

وبالعودة للشارع، فهو حاليًا قادرٌ على إرباك كل السيناريوهات وإنهاك الجميع بالاحتجاجات المتواصلة، وضرب أي مساومات بعيدًا عنه، سواءً كانت من أحزاب معارضة أو مراكز قوى داخل النظام. إذ يبدو أن الثورة على كل القديم البائس، أو تلك الطبقة المعشعشة في راهننا العربي، وينطبق عليها توصيفُ قاضي طليطلة الأندلسي صاعد بن أحمد: "لم يُنقَلْ عنها فائدة حكمة، ولا رُؤيَتْ بها نتيجة فكرة"!

وفي الوقت الذي يستمد فيه "تجمع المهنيين السودانيين" الغامض كما وصفته الحكومة، شرعيته من مطالب الشباب المحتجين، فإن معركة الشباب ماضية إلى أنهم لن يخسروا شيئًا سوى الأغلال، وبإمكانهم الدعوة لجولات ومواكب جديدة في أي مكان وزمان، وتجريب كل وصفات المقاومة بما فيها العصيان المدني، وهو ما سيفضي إلى ساعة مُضاربة حرجة، لابُدَّ.  

هذا الجيل لن يُهزم بسهولة، لم يدب اليأس فيهم رغم القهر والأسى والفاقة، يحددون وقت وأماكن التظاهر مسبقًا دون خوف أو تردد، ويعانقون آليات القمع، فيتعرض أحدهم للضرب المبرح ولا يصرخ، ويلتقطون عبوات البمبان الحارقة من أفواه البنادق، ليعيدونها بأياديهم المتسلخة. 

يقف شاب لأخته تحت الرصاص، ويحني لها ظهره لتصعد، ويعبر شاب آخر شارع الموت بقدم مبتورة، وهو يعلم أنه لا يستطيع الهروب. وحتى الذين قُتلوا كان الرصاص يقتحم صدورهم وجباههم مباشرة، ما يعني أنهم في منازلة حتمية مع الموت، بصدورهم لا بحافة أقدامهم.

أكثرهم أطباء ومهندسين وصيادلة وأساتذة وأصحاب حرف ومواهب، وأبناء قادة ومهاجرين وأصحاب استحقاقات مهنية وسياسية عن جدارة واستحقاق. لم يشغلهم ذلك عن الإحساس بمعاناة الآخرين، ولم تستعبدهم المناصب، ولم يفسدون ويسرقوا أموال أهلهم، لأنهم جيل متسلح بالوعي والأخلاق، ممعن في الإنسانية، يوزعون الخبز والآسرة والعلاج على الفقراء ويخدمون مجتمعهم طواعية، يؤثرون على أنفسهم، ويحافظون على الأعراض والأسرار، ويقدمون للعالم دروسًا في الشجاعة والبسالة، يقتسمون المخاطر، الذكور والإناث معًا .

هذا الجيل الثائر الآن في السودان، لن يهزم بسهولة، ولن يدب اليأس فيه رغم القهر والأسى والفاقة. يتظاهرون معانقين آليات القمع بلا خوف أو تردد

وأنتم أيها الساسة الكبار الذين هزمتهم الشروخ، إن كنتم تظنون أن "الخيول التي انحدت من هوة نسيانها حملت معها جيل فرسانها"، فأنتم واهمون.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشارع السوداني ينتفض ضد الجوع والقمع.. لا شيء لدى السلطة إلا "البوليس"

أدب المقاومة في قلب الشارع السوداني.. انتفاضة ثقافية ضد القهر والرصاص