أيام قليلة تفصلنا عن المعركة الأشرس داخل الأسرة الصحفية المصرية، حيث انتخابات نقابة الصحفيين المصريين، الأقدم في المنطقة، والتي تشهد في هذا الاستحقاق الاستثنائي منافسة حامية الوطيس بين تيارين هم الأكثر هيمنة على المشهد الصحفي في الوقت الراهن، التيار الممثل للحكومة بقيادة عضو المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الصحافية السابق، عبد المحسن سلامة، وممثل التيار اليساري المعارض، النقيب الحالي خالد البلشي.
وكان مجلس النقابة قد قرر تأجيل انعقاد الجمعية العمومية للنقابة التي كان مقررًا لها السابع من آذار/مارس الجاري، لعدم اكتمال النصاب القانوني اللازم لانعقادها، والمشروط بحضور نصف عدد الأعضاء المشتغلين على الأقل ( يبلغ عددهم 10224 عضوًا) طبقًا للمادة «35» من القانون رقم 76 لسنة 1970، وعليه دعا سكرتير عام النقابة، جمال عبد الرحيم، رئيس اللجنة المشرفة على انتخابات التجديد النصفي، أنه سيتم دعوة الجمعية العمومية للانعقاد يوم الجمعة 21 من الشهر الحالي، شريطة أن يكتمل النصاب القانوني لانعقادها بحضور (25%)، وفقًا للمادة (34) من قانون النقابة.
تحولت انتخابات نقابة الصحفيين المصريين في السنوات الأخيرة إلى ساحة معارك شرسة بين مرشح الدولة ومرشح المعارضة، حيث يسعى كل طرف إلى استخدام كل ما لديه من أدوات، سواء مشروعة أو غير ذلك، في معركة استقطاب من الطراز الأول
ويبلغ عدد المرشحين لانتخابات التجديد النصفي لنقابة الصحفيين المصريين على مقعد نقيب الصحفيين، و6 من أعضاء مجلس النقابة، (51) مرشحًا، منهم (8) على مقعد النقيب، و(43) لعضوية المجلس، فيما تم دعوة الصحفيين المقيدين بجدول المشتغلين، وإعلان كشوف الأعضاء بمقر النقابة العامة والفرعية بالإسكندرية.
تحولت انتخابات نقابة الصحفيين المصريين في السنوات الأخيرة إلى ساحة معارك شرسة بين مرشح الدولة ومرشح المعارضة، حيث يسعى كل طرف إلى استخدام كل ما لديه من أدوات، سواء مشروعة أو غير ذلك، في معركة استقطاب من الطراز الأول. هذه الانتخابات تخضع لمعايير وقواعد متغيرة وغير متوقعة في كثير من محطاتها، فيما يترقب آلاف الصحفيين، الذين يعانون أوضاعًا معيشية صعبة، ما ستسفر عنه هذه المواجهة، التي ستحدد ملامح مستقبل المهنة خلال السنوات الأربع المقبلة.
عبدالمحسن سلامة.. مرشح الحكومة حامل خاتم سليمان
حمل عبدالمحسن سلامة، المرشح على منصب نقيب الصحفيين، والذي سبق له تولي هذا المنصب بين عامي 2015 – 2017، برنامجًا ورديًا للأسرة الصحفية، غازل من خلاله أحلام الصحفيين في تحسين الوضع المعيشي من خلال حزمة من الوعود كان على رأسها زيادة بدل التكنولوجيا ( قيمة شهرية يتقاضاها الصحفيون بدل طبيعة عمل وتوفرها الحكومة من خلال ميزانية تقرها وزارة المالية) والبالغ حاليًا 3900 جنيهًا (77 دولارًا) شهريًا، زاعمًا أنه حصل على "موافقة من الدولة بشأن إقرار حزمة اقتصادية وضخمة وغير مسبوقة في تاريخ الصحفيين المصريين تستهدف دعمهم في ظل الظروف الصعبة التي يمرون بها".
يؤمل صانع القرار في #مصر نفسه بهندسة المشهد الحزبي على الطريقة الأميركية، "جبهة ومستقبل" على غرار الديمقراطيين والجمهوريين، بما يغلق الباب تمامًا أمام أي محاولات للأحزاب والكيانات الأخرى في المنافسة.
اقرأ التقرير: https://t.co/Ka2INtwSYy pic.twitter.com/vYY1UTHEZK— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) January 24, 2025
وقدم سلامة الذي يحسبه الوسط الصحفي على الدولة، كونه ابن مؤسسة الأهرام المملوكة للحكومة، وأحد الأذرع الإعلامية المحسوبة على النظام والداعمة له، برنامجًا انتخابيًا مكونًا من 3 محاور أساسية، أولها يتعلق بالحريات إذ زعم أنه لم يسبق له أن تخلى عن زميل في هذا المجال، واعدًا الصحفيين بسماع أخبار سارة تتعلق بهذا الملف قريبًا.
أما المحور الثاني فيتعلق بالمهنة وتطويرها من خلال إنشاء معهد أكاديمي للدراسات العليا للحصول على الماجستير والدكتوراه، بما يضيف ثقل للمهنة، متعهدًا بأن يكون أفضل معهد تدريبي على مستوى مصر والشرق الأوسط، وفيما يتعلق بالمحور الثالث وهو الجانب الاقتصادي فأشار إلى أن برنامجه يتضمن حزمة اقتصادية شاملة، تتمثل في بدل غير مسبوق، وشقق وأراضٍ سكنية، وأراضٍ زراعية وغيرها، وحل مشكلة التأمينات الخاصة بالصحفيين المنتسبين للصحف الموقوف ملفاتها التأمينية.
واستعرض النقيب الأسبق الذي كان عضوًا في الحزب الوطني المنحل إبان عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، وكان من بين المرشحين عن الحزب عن دائرة شبرا الخيمة في محافظة القليوبية عام 2010 في الانتخابات التي أفضت إلى "برلمان مزور بالكامل"، ومثلت أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع ثورة 25 كانون الثاني / يناير 2011، في برنامجه الانتخابي المقدم أبرز الإنجازات التي حققها خلال ولايته السابقة.
ومن أبرز تلك المشروعات التي روجت لها حملته الانتخابية إنشاء معهد التدريب، وأرض مستشفى الصحفيين، إضافة إلى بعض التجديدات في البنية التحتية والمرافق بالنقابة نفسها مثل تجديد الكافيتريا ووجود مكتب للشهر العقاري ومنفذ للسلع التموينية، بجانب الحصول على عضويات للصحفيين بعدد من الأندية.
يذكر أنه وخلال فترة توليه رئاسة تحرير صحيفة الأهرام، انتحر الصحفي بالجريدة عماد الفقي داخل مكتبه في الطابق الرابع من مبنى المؤسسة، في 28 نيسان/أبريل 2022 بسبب اضطهاده ماليًا وإداريًا وعدم حصوله على مستحقاته، وهي القضية التي أثارت الجدل في ذلك الوقت وطالب تيار كبير من الأسرة الصحفية بمحاسبة إدارة الصحفية وتحميلها مسؤولية الواقعة.
ويصف المعارضون لسلامة ما يقدمه من مغريات مادية في صورة بدلات وشقق وأراضي بأنها "رشى انتخابية"، حصل عليها من خلال علاقته القوية بالدولة، ويحاول من خلالها إسالة لُعاب الصحفيين، واستقطابهم، مستغلًا الأوضاع المعيشية الصعبة التي يواجهونها، والتي دفعت كثيرًا من أبناء الأسرة الصحفية لتغيير المسار والبحث عن وظائف ومهن أخرى بعدما فقدت الصحافة روقنها كمهنة تكفي احتياجات الصحفي وأسرته.
ويعزف المرشح الحكومي على منصب نقيب الصحفيين، على وتر حاجة هذا المنصب، الذي يخدم ما يقرب من عشرة ألاف صحفي مٌقيد بجدول المشتغلين، لأن يكون صاحبه ذو علاقات جيدة ومتشعبة مع أجهزة الدولة المختلفة، وألا يكون صداميًا معهم، بما يسمح له بالحصول على أكبر قدر ممكن من الامتيازات المقدمة للأسرة الصحفية بصرف النظر عن خلفياته السياسية والأيديولوجية، فالمهم مصلحة الصحفيين والتي يجب أن تكون في المقام الأول.
خالد البلشي.. اليساري الحالم بالحريات
وعلى الجانب الأخر من المشهد، يأت نقيب الصحفيين الحالي، خالد البلشي، ذو التوجهات اليسارية المعروفة، والمحسوب داخل الوسط الصحفي على المعارضة، والذي طالما دخل في معارك قاسية مع الحكومة قبل انتخابه نقيبًا للصحفيين في مثل هذا الشهر قبل عامين، والذي أعلن هو الأخر ترشحه مجددًا على ذات المنصب ليجد نفسه وجهًا لوجه أمام المرشح الحكومي المخضرم.
تتصاعد حملة الاعتقالات والقمع في #مصر ضد من يعبرون عن "تذمرهم، ويشتكون من ارتفاع الأسعار أو انخفاض الأجور، نتيجة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في مصر". pic.twitter.com/8XXXs94vpe
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) May 15, 2024
وكان البلشي الذي رأس تحرير موقع "درب" الإخباري التابع لحزب التحالف الشعبي المعارض، قد فاز بمنصب النقيب على حساب منافسه المدعوم من الحكومة خالد ميري، رئيس تحرير صحيفة "الأخبار" اليومية سابقًا، خلال الانتخابات التي جرت في أذار/ مارس 2023، والتي كانت حينها مفاجأة مدوية نظرًا للدعم الذي حصل عليه حينها منافسه والوعود التي قطعها على نفسه من امتيازات مادية للأسرة الصحفية.
ويضع مرشح اليسار قضية الحريات في قائمة الأولويات، معتبرًا أنها واحدة من أهم الملفات التي عمل عليها منذ توليه المنصب، هذا بخلاف العمل قدر الإمكان على تحسين الأوضاع المعيشية للصحفيين من خلال زيادة البدل، وتوفير وحدات سكنية في العديد من المشروعات السكنية التي تقيمها الدولة وتوفر جزء منها لأبناء المهنة.
ومن أبرز المشروعات التي يراها أنصار البلشي إنجازات تٌحسب له خلال ولايته الأولى، إعادة تفعيل مشروع مدينة الصحفيين بعد توقف دام 15 عامًا، بالإضافة إلى مشروع تعيين الصحفيين المؤقتين، الذي يعتبره من أبرز الملفات التي يتم العمل عليها حاليًا. هذا بجانب جهوده المبذولة لزيادة البدل بشكل دوري دون ارتباطه بموعد الانتخابات حتى لا يٌفسر على سبيل الرشى، حيث قدم طلبًا لمجلس الوزراء لزيادة 30% من بدل التدريب والتكنولوجيا، لافتا أن الرد الذي تلقاه كان بتوصية دراسة الأمر.
المعارضون للبلشي يصفونه بأنه "نقيب الشلة" الذي يخدم أبناء توجهه السياسي وفقط، متهمين مجلس النقابة الحالي بأنه مجلس يساري يُهيمن عليه أبناء هذا الفكر الاشتراكي، وما لذلك من تداعيات سلبية على عموم الصحفيين، محذرين من أن استمرار المجلس بتلك الوضعية، حال فاز المرشح اليساري المعارض، سيقلل بشكل كبير من فرص حصول أبناء المهنة على امتيازات إضافية.
ورغم محاولات النقيب الحالي تجنب الصدام مع الدولة، وإبداء الكثير من المرونة، للحصول على أكبر قدر ممكن من الخدمات للصحفيين، لكن خلفيته السياسية والأيديولوجية واشتباكه بين الحين والأخر مع الحكومة بشأن قضايا الحقوق والحريات، تٌبقي على مساحة الفجوة بينه وبين المؤسسات الرسمية، مما يعتبره البعض تهديدًا لمصالح الصحفيين الباحثين عن نقيب ذو علاقة جيدة مع النظام بما يساعده في تمرير الخدمات الصحفية واحدة تلو الأخرى دون عراقيل أو اشتراطات.
الصحفيون بين مُغريات سلامة وحريات البلشي
في استبيان أجرته نقابة الصحفيين المصريين قبل أشهر قليلة كشف أن 72 % من الصحافيين في مصر، يعيشون على أقل من الحد الأدنى للأجور المُحدد من الدولة بـ7000 جنيه شهريًا (نحو 138.6 دولارًا أميركيًا) وأن 40 % منهم يعيشون بأقل من نصف الحد الأدنى، مقابل 28.2 % يلامسون الحد الأدنى أو يزيدون عليه.
كما كشفت النتائج عن أن شريحة واسعة من الصحفيين تبلغ 40,1 % تلجأ للعمل الإضافي بشكل دائم، للوفاء بالتزامات الحياة، ونحو 24,4 % يلجئون للعمل الإضافي أحيانًا، بخلاف 30% يلجؤون لأعمال غير صحفية لتحسين أجورهم، ما يعني أن قرابة ثلثي الصحفيين المصريين غير قادرين على تلبية احتياجاتهم المعيشية، مما يدفعهم للبحث عن عمل إضافي.
تلك الوضعية الصعبة اقتصاديًا تدفع الأسرة الصحفية في عمومها للميل نحو المرشح الأكثر قدرة على استقدام خدمات وامتيازات مادية وعينية للصحفيين، وهو المدخل الذي يلعب عليه المرشحون بطبيعة الحال، ويصفه البعض بـ "الرشاوى" التي تستهدف استمالة الصحفيين المهمشين معيشيًا، والذين يمثلون الغالبية العظمى من أبناء المهنة.
في استبيان أجرته نقابة الصحفيين المصريين قبل أشهر قليلة كشف أن 72 % من الصحافيين في مصر، يعيشون على أقل من الحد الأدنى للأجور المُحدد من الدولة بـ7000 جنيه شهريًا (نحو 138.6 دولارًا أميركيًا) وأن 40 % منهم يعيشون بأقل من نصف الحد الأدنى، مقابل 28.2% يلامسون الحد الأدنى أو يزيدون عليه
يقول الصحفي معتز الشال، عضو نقابة الصحفيين المصريين، إنه في وضعية صعبة من أمره في تلك الانتخابات، فبينما يميل نحو انتخاب عبدالمحسن سلامة، المرشح الذي تربطه علاقات جيدة بالحكومة والقادر على توفير امتيازات مادية للصحفيين، إلا أنه في ذلك الوقت يُمني النفس بمناخ أفضل من الحريات الصحفية والدفاع عن حقوق أبناء المهنة، وهو ما يتحقق باستمرار البلشي في منصبه كنقيب للصحفيين.
ويضيف الشال في حديثه لـ"الترا صوت" أن الأجور المتدنية للصحفيين وأوضاعهم الصعبة مدخل يعرفه مرشحو الحكومة بشكل جيد، ويلعبون عليه باحترافية، وفي الوقت ذاته لا يمكن لوم الصحفي على هذا الاختيار، فهو قبل أي شيء شخص مسؤول ولديه التزامات يحتاج لأجل تلبيتها أجر جيد ودخل محترم.
وعلى الجانب الأخر تميل الكاتبة الصحفية شروق عطية إلى أن الصحافة بلا حريات رئة مهملة، ولا قيمة لها، فهي أقرب لنشرات العلاقات العامة الصادرة عن المؤسسات والوزارات الرسمية، مضيفة في حديثها لـ "الترا صوت" أن "مساحة الحقوق والحريات هي التي تحدد مكانة الصحافة والصحفيين، ولو اتسعت تلك المساحة لاتسع المجال لدخول أفضل وأريحية في العمل بما يعود بالنفع المادي على الصحفي مستقبلًا"، محذرة مما وصفته بـ "تدجين" الصحافة واستئناسها بالمغريات المادية وفقط.
يجد الصحفيون المصريون أنفسهم أمام مأزق كبير، بين مطرقة مغريات المرشح الحكومي، الذي يقدّم حزمة اقتصادية تستهدف تحسين الأوضاع المعيشية المتدهورة، وسندان المرشح اليساري المعارض، الذي يَعِدُ بمناخ أوسع من الحريات، حتى لو كان ذلك على حساب الأبعاد الاقتصادية. فإلى أيّ منهما ستميل الكفة داخل صناديق الاقتراع؟