30-يوليو-2020

بشار وأسماء الأسد داخل مركز اقتراع في دمشق (أ.ب)

في معرض بسطه لأهم الأسس التي تقوم عليها عملية التحليل النفسي، ارتجل فرويد في شتاء 1915 من على إحدى مدرجات الطب العقلي في جامعة فيينا أربع محضرات، خصّص الأولى منها لشرح منهجه في التحليل النفسي، الذي ارتأى له أن ينهض على قاعدة التمييز بين الكلام الواعي والكلام اللاواعي (الأحلام، زلات اللسان، والهذيانات)، وأثر الثاني في تقرير محتوى الأول. فيما أفرد محاضراته الأخرى لتقدم فهمًا مغايرًا لهفوات اللسان التي طالما كان يتم التعامل معها كنوع من أنواع الكلام الذي لا يحمل في داخله أية معنى.

مع فرويد سيتم التعامل مع هفوات اللسان كشكل من الأفعال النفسية التي تحمل في داخلها نوعًا من الصراع النفسي

مع فرويد سيتم التعامل مع هفوات اللسان كشكل من الأفعال النفسية التي تحمل في داخلها نوعًا من الصراع النفسي بين مقصدين، يسعى المقصد الأول لأن يتطابق مع الإرادة الواعية للمتكلم ويعبر عن مشيئته، فيما يسعى المقصد الثاني إلى عرقلة مساعي المقصد الأولى والعمل على الضد منها، على الرغم من جميع الاحتياطات التي اتخذتها النفس لمنع ظهوره في ساحة الوعي.

اقرأ/ي أيضًا: إنهم يحرقون دمشق

العبارة التي قد يتلفظ بها أحد المدافعين عن صدقية انتخابات النظام عبر قوله "إننا نعيش اليوم (سعرًا) للديمقراطية"، هفوة لسان كبيرة تفصح عن فشل مرتكبها في كبت حقيقة تلك الديمقراطية الزائفة عن عين نفسه كما عين الناس. ذلك أن تلك الانتخابات في وعيه الباطن ليس أكثر من جحيم إلهي (سعير)، يسعى الفائزون بها لوضع الناس الذين إنتخبوهم في أعماق معاناته.

تضمن الفيديو الذي أعدته "وكالة نبأ" عن الوقائع التي رافقت التغطية الإعلامية، ليوم انتخاب "مجلس النظام" المسمى زورًا وبهتانًا "مجلس الشعب"، العديد من زلات اللسان التي نطق بها أناس من المفترض أنهم موالون للنظام. فما الدوافع التي جعلتهم يرتكبون كل تلك الزلات والهنات؟ وما المغزى الحقيقي وراء خروجها عنهم، على الرغم من محاولاتهم المستميتة بإخفائها؟

تبعًا لمنهج فرويد في تحليل زلات اللسان، فإن ظهور أحد رجال الدين أمام إحدى وسائل إعلام النظام، وهو يتعثر بنطق إحدى الكليشات اللفظية، التي يخجل الأمي عن التعثر بها "الرجل المناسب في المكان المناسب"، ليأتي بها لسانه على نحو هزلي "المكان المناسب في الرجل المناسب"؛ يعكس إلى حد بعيد مقدار التمزق العاطفي الذي يعيشه الرجل، بين ضميره الذي يلح عليه رفض التصديق بتلك العبارة الجوفاء التي يرغب النظام بترويجها عن نفسه، وبين إرادته الواعية بممالأة النظام، إما تفاديًا لشروره، أو طمعًا بالحصول على مكافأته.

إذا كان لرجل دين فصيح أن يتعثر بالكلام الشائع، نتيجة لتمزقه العاطفي بين رغبتين، تسعى الأولى بكل ما استطاعت لتمجيده، فيما تسعى الثانية للاعتراض عليها وتكذيبها. فما الذي دفع يا هل ترى مندوب الإخبارية السورية إلى التعثر في لفظ روسيا بدلًا من سوريا في معرض تعظيمه لأهمية الانتخابات التي كلف بتغطيتها: "المشهد اليوم، أن نشهد الكثافة الانتخابية، في درعا، في سهل حوران، تثبت للجميع بأمل هذا الشعب بمستقبل أفضل لروسيا.. عفوًا لسوريا". فقد فضحت زلة لسان الإعلامي، الذي نطق بروسيا بدلًا من سوريا، مدى الفشل الذي مني به الرجل في تمرير أكاذيبه على نفسه، على الرغم من الجهد المبذول من قبله، لكبت حقيقة عدم قناعته بالأمل الذي سيتمخض عن تلك الانتخابات.

بدت السيدة التي وقفت أمام الكاميرا لتعبر عن صمود الشعب السوري، أقل انفعالًا من رجل الدين، مع ذلك فإنها ارتكتب ثلاث عثرات لسان أثناء نطقها لعشرة كلمات "أصوت صوتي وأرفع صوتي، للشعب السوري، وأقول نحن صامتون إن شاء الله". فما الذي جعل السيدة ترتكب كل تلك العثرات دفعة واحدة؟ فبدلًا أن تقول "أرفع صوتي" قالت "أصوّت"، وبدلًا من أن ترفع صوتها للقيادة الحكيمة كما هو متعارف لدى السوريين، رفعته للشعب، وبدلًا أن تقول له "إننا صامدون" قالت "صامتون". تبدو الجملة الأولى مبلبلة حقًا. فما معنى أن يرفع المرء صوته للشعب السوري؟

كان الأولى بها أن تقول: أتقدم بصوتي إلى القيادة الحكيمة. فما الذي جعلها تظهر بلهاء إلى هذا الدرجة؟ أهو الخوف من وهرة الكاميرا التي داهمتها على حين غرة؟ أم مسارعة وعيها الباطن في منعها من سرد جميع الأكاذيب التي كانت تهم بسردها؟

ما هي يا ترى تلك الآلية النفسية التي تفسر جرأة بعض ممثلي الأسد على التعريض بأساليبه الاحتيالية في إدارة الانتخابات؟

يبدو لا وعي تلك السيدة يقظًا إلى درجة لا تصدق، على النحو التي جعلها تسقط في جميع المرات، التي كانت تحاول الهروب فيها من سطوة لا وعيها، فمع أن قصدها كان يتمحور حول رغبتها في تمجيد القائد "أضم صوت إلى صوت الشعب السوري، وأقول لقائدنا أننا صامدون إن شاء الله"، إلا أن صوت لا وعيها المكبوت تغلب عليها وجعلها تنحرف بالقول لتقول "أصوت"، في محاولة لمنعها من قول أرفع، ولكن طامتها الكبرى، كانت في الإذعان إلى حقيقة أنها صامتة ومغلوب على رأيها، وأنها غير قادرة لا على أن ترفع ولا أن تضع صوتها في وجه أحد، اللهم إلا في وجه الكاميرا التي ظلت تمضي في فضح مخاوفها و أكاذيبها.

اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد.. عشرون عامًا

إذا كان لعلم نفس الهفوات أن يكشف لنا عن مدى التمزقات الروحية، التي يعيشها الإنسان السوري في ظل دولة الأسد، فما هي يا ترى تلك الآلية النفسية التي تفسر جرأة بعض ممثلي الأسد على التعريض بأساليبه الاحتيالية في إدارة الانتخابات. أهي الرغبة بالانتقام وفقا للقاعدة المعروفة "علي وعلى أعدائي"؟ أم هو شعورهم المتنامي بضعف هيبة بشار الأسد وسطوته عليهم بعد تسع سنوات من الحرب، إلى الدرجة التي جعلتهم يفاخرون بتحدي إرادته الرئاسية، على النحو الذي ذهب إليه فارس الشهابي، رئيس غرفة صناعة حلب "ندمي الوحيد هو أنني لم أنسحب بعد زيارة "الرفيق" التوجيهية قبل الانتخابات.. يمكن لأني مقاتل بطبعي"؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

انحلال أخوية المتحابين في الرئيس

نظام سياسي.. نظام ثقافي