24-أبريل-2022
مارين لوبان

يبدو اليمين المتطرّف الفرنسي أقرب إلى السلطة أكثر من أي وقت مضى (Getty)

يبدو اليمين المتطرف أقرب إلى السلطة اليوم في فرنسا أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، وهو تطوّر فرض نفسه أخيرًا على المشهد السياسي في فرنسا، فلم نعد أمام مرشحي احتجاج على هامش النزالات الانتخابية، بل أمام أرقام صعبة وأكثر قدرة على قلب النتائج وحكم البلاد. 

أيًا كانت النتيجة اليوم، والتي يرجّح أن تكون لصالح ماكرون، فإن وصول مارين لوبان إلى هذه المرحلة المتقدّمة من المنافسة يعدّ تطوّرًا لافتًا جديرًا بالنظر والتحليل

فالفرنسيون سيتجهون اليوم الأحد إلى صناديق الاقتراع في جولة ثانية حاسمة من الانتخابات الرئاسية، ليختاروا بين الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون المحسوب على الوسط المنزاح قليلًا نحو اليمين حاليًا، والذي تواجهه على طرف اليمين، مارين لوبان، والتي تعدّ من أبرز وجوه اليمين المتطرف في فرنسا وأكثرهم حظًا في الوصول إلى الإليزيه، سواء اليوم الأحد، أو في الغد البعيد في انتخابات لاحقة.

ومارين هذه، هي ابنة أبيها، جان ماري لوبان، والذي خاض هو الآخر جولة مماثلة من الانتخابات أمام جاك شيراك في العام 2002، إلا أنّ النتيجة حينها قد كانت محسومة سلفًا لصالح الأخير، والذي حظي بفوز ساحقٍ على خصمه. رغم ذلك، شكّل صعود لوبان الأب إلى جولة ثانية من الانتخابات آنذاك صدمةً كبيرة في فرنسا وأوروبا. فالرجل الذي أسس حزب الجبهة الوطنية عام 1972، كان وما يزال شخصًا مشاغبًا مثيرًا للجدل والاستقطاب في الساحة السياسية في فرنسا، تنال من سمعته تهم معاداة الساميّة والتعاطف مع الاحتلال النازي لفرنسا في الحرب العالمية الثانية والتطرّف المفرط في العداء للاجئين. 

مارين لوبان

إلا أن الكثير قد تغيّر بين العام 2002، حين حاز لوبان الأب على 17.8 بالمئة من الأصوات، وبين العام 2017، حين نجحت مارين في الوصول مثل أبيها إلى جولة ثانية من الانتخابات أمام ماكرون. صحيحٌ أن الفوز لم يكن حليفها هي الأخرى، إلا أنها حازت قرابة 34% من أصوات الناخبين. واليوم الأحد، تخوض لوبان جولة ثانية للمرّة الثالثة عن اليمين المتطرّف في العقدين الماضيين، في ظل استطلاعات ترى أنها في طريقها إلى حصاد أكبر نسبة من أصوات الناخبين مقارنة بأي مرشّح يميني آخر في تاريخ فرنسا الحديث برمّته، هذا عدا عن تلك الآراء التي ترى أن فرصة فوز لوبان ما تزال قائمة، وأن مفاجأة ما قد تحصل قبل إغلاق صناديق الاقتراع. 

والحقّ أنّ الظروف القائمة في فرنسا اليوم سانحة لذلك، سواء كان ذلك بسبب الأزمات الاقتصادية التي يواجهها إيمانويل ماكرون واستمرار ارتفاع مستوى التضخّم في فرنسا وتراجع القوة الشرائية بين الفرنسيين، وهي أزمات كانت في صلب حملة لوبان الانتخابية هذا العام، إلى جانب آرائها التقليدية المتطرّفة، التي سعت إلى خلق حالة من الذعر بين قطاع من الفرنسيين، تحذّرهم فيه من مستقبل وخيم في حال استمرّت النخبة الحالية بحكم فرنسا، عبر سرديّة رُهابيّة محضة، تخوّف من الأجنبي واللاجئ، وتدّعي بأن المجتمع الفرنسي "الأصلي" على شفا الانهيار و"الاستبدال". 

لكن، وأيًا كانت النتيجة اليوم، والتي يرجّح أن تكون لصالح ماكرون، فإن وصول مارين لوبان إلى هذه المرحلة المتقدّمة من المنافسة يعدّ تطوّرًا لافتًا جديرًا بالنظر والتحليل، عدا عن كونه إنجازًا من شأنه أن يثير المزيد من الإعجاب بين قطاع من الفرنسيين بشخصية لوبان الطموحة والأكثر قربًا من الناس، وهو الجانب الذي تتفوق فيه بالتأكيد على ماكرون، أحد رؤساء فرنسا الأقل شعبية.

فقد نجحت لوبان خلال العقد الماضي ببناء صورة جديدة عن ذاتها وحزبها ساعدتها على توسيع قاعدتها الانتخابية وإقناع المزيد من الفرنسيين بجدوى التصويت لها. بدأ ذلك على نحو جليّ وحاسم في العام 2015، بعد أن أقصت والدها عن زعامة الحزب الذي أسسه، ونأت بنفسها عنه وعن آرائه المشكلِة والمجرّمة قانونيًا في فرنسا، وبالتحديد تلك المتعلقة بالهولوكوست ومعاداة السامية. وقد كان كانت تلك خطوة أولى جريئة وعلى قدر كبير من الأهمّية، تنبئ بأن الساحة السياسية في فرنسا مقبلة على مرحلة جديدة ومختلفة، يبدو فيها اليمين المتطرف مستعدًا للتوقف عن الاكتفاء بسياسات الاحتجاج الناقمة على الوضع القائم في السياسة والاقتصاد والمجتمع، والانتقال نحو إستراتيجية محكمة وأكثر دهاءً وفعالية، تضمن له كسب ثقة المزيد من الناخبين واستقطاب الخبرات من السياسيين والاقتصاديين، وتطوير برنامج انتخابي قادر على منافسة من هم في السلطة بدل الاكتفاء تقليديًا بأداء دور المناكف والمشاغب في المجال العام. 

لقد توقّع الجميع خسارة مارين لوبان في العام 2017، إلا أن وصولها إلى تلك الجولة الثانية وخسارتها بفارق 32 نقطة أمام ماكرون، اعتبرت نجاحًا نسبيًا فارقًا وخطوة بالاتجاه الصحيح، ودافعًا للمزيد من التغيير في خطابها وصورة حزبها، وتبديد الشكوك العامّة حول مغبّة وصولها إلى الإليزيه وما يعنيه ذلك لفرنسا والعالم، وتبني مقاربة جديدة في الحملة الانتخابية للعام 2022.

وبالإضافة إلى اهتمامها بصورتها العامّة الأقرب للناس، اقتربت مارين لوبان أكثر من قواعد الوسط التي استفاد منها ماكرون سابقًا حين ترشّح أوّل مرّة للانتخابات بعيدًا عن الاصطفافات التقليدية ما بين اليمين واليسار. لقد تبنّت مارين لوبان ما يصفه الكاتب ياشا مونك بأنه "تطهير اليمين المتطرف"، عبر التخفف أولًا من إرث أبيها وتاريخ معاداة السامية التي ارتبطت بحزبه، والتركيز بشكل أكبر على الهموم الاقتصادية اليومية للناخب الفرنسي، وتضخيم الوعود بشأن السيطرة على الغلاء والتضخم وخفض الضرائب على الوقود والسلع الأساسية، والحفاظ على رفاه المواطنين، وتعزيز قدراتهم الشرائية. بل إن لوبان قد حرصت في حملتها الأخيرة على أن تعد أنصارها بأنها ستكون رئيسة "القوّة الشرائية". 

لا يعني ذلك أنّ خطابها اليميني المتطرّف قد باتّ أقلّ تطرّفًا وحدّة في معظم القضايا، إلا أنّه لم يعدّ عنصر الخطاب الوحيد الذي تبنّته مارين لوبان في الفترة الماضية، وهو تحوّل أثبت نجاعته على ما يبدو في زيادة فرصها للتفوق على ماكرون، الذي يعاني من تبعات سنوات عجاف تخللتها جائحة مدمّرة، وحرب روسيّة على أوكرانيا خلطت جميع الأوراق. في هذا السياق، كان ماكرون نفسه يرقب جيدًا تصاعد شعبية لوبان، وبدا مستعدًا بشكل متزايد للانزياح أكثر في خطابه نحو رياح اليمين، علّه يغتنمّ شيئًا منها.

مارين لوبان

كما تراجعت في الوقت ذاته حالة الصدمة والتخوّف بين الفرنسيين إزاء آراء لوبان المتطرّفة، ضد اللاجئين والأقليات الدينية ولاسيما المسلمين، والموقف من مستقبل فرنسا في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وغير ذلك، وبدت خطورة خطابها باهتةً بشكل متزايد، في ظل وجود شخصيّة مثل إريك زمور، الذي أتاحت له لوبان أن يسحب البساط من تحتها ليكون هوَ أيقونة أقصى اليمين، وهو ما جعلها تبدو بالمقارنة معه خيارًا معقولًا أكثر للناخب المستاء من ماكرون والرافض منحه فرصة لعهدة جديدة في الإليزيه.

ستكشف هذه الجولة من النزال الانتخابي في فرنسا، أيًا كانت نتائجها، المزيد عن مدى اقتراب الجمهورية الخامسة من شرَك التطرّف اليميني ومدى قدرته على تحقيق اختراقات وازنة في مؤسسات الدولة

وعليه فإن هذه الجولة من النزال الانتخابي في فرنسا، أيًا كانت نتائجها، ستكشف لنا بشكل أوضح عن مدى اقتراب الجمهورية الخامسة من شرَك التطرّف اليميني ومدى قدرته على تحقيق اختراقات وازنة في مؤسسات الدولة وبين نخبها التقليدية التي يمكن القول أنّها قد باتت في غالبيتها اليوم لا تمثّل سوى تشكيلات متنوّعة من اليمين على الناخبين الاختيار بينها.