12-نوفمبر-2019

(Getty) في لحظة الكتابة

لولا هذا الوهم الجميل لم نكتب. في إحدى نصوص ديوان "ما يشبه الرثاء" قلت: "هذي الكتابة وهميَ الأبدي/ يا حلوَهُ من وهم".

مع كل كتابة جديدة يتلبسني وهم أنني سأغيّر العالم، وأن ما كتبته لا يختلف عن أعظم الكتابات عمقا وأهمية، ويجب أن يقرأه ملايين البشر، فهو فرصتهم الوحيدة في المتعة الفكرية والوجدانية والإنقاذ من الضلال. لي صديق ترك الكتابة منذ فترة واكتفى بالتدوين على الفيسبوك، ينتبه إلى هذا المرض الذي يصاب به الكتّاب، ويضيف إلى هذا المرض مرضًا آخر وهو وهم إقناع الآخرين بأفكارك. أنا هنا مصاب بالمرضين معًا.

أكتب في كل مرة وأنا تحت هذه الحالة، على الرغم من أنني أصاب بخيبة أمل كبيرة عقب كل كتابة، ولكنني لم أكن لأتراجع أو أشعر بالكلل أو بالملل، ولم أكُ في يوم ما كسولًا. أمتنع عن النوم لأن ثمة كتابة "تحوسُ" في ذاكرتي، تضغط عليّ بقوة، وتدق جدران جمجمتي، أحاول طردها أو تأجيلها، فتصرخ بي ويشتد جنونها، فأخضع لها فأبدأ بالكتابة دون انقطاع كأن وحيا ما يلقنني الأفكار. هنا أبدو مهجوسًا جدًا ومريضًا بجنون العبقرية.

ربما أعدت قراءة ما كتبت بصوت مرتفع منتشيًا فخورًا، وربما اكتفيت بنشوة الكتابة الأولى، أبتسم وأنا كلي ثقة أن هذه الكتابة فريدة، عجيبة، معجزة. أرسل ما كتبت إلى قارئتي الأولى، أحيانًا لا أنتظر ردّها، وأحيانًا لا أتوقع إلا جرعة إضافية من النشوة، ونادرًا جدًا ما يقزمني رأيها، فلا يعجبها ما كتبت، تحاورني، تضعني في خانة الضعف. أسكت، تبرد حماستي وأنكمش، ولكن لم أتخلص تمامًا من الوهم، فاللحظة ما زالت مسيطرة عليّ وإن بشعور أقل.

أطيّر تلك الكتابة في الفضاء الإلكتروني وتبدأ رحلة الخيبة بالتشكل. وهكذا حتى تصبح الخيبة كتلة من الضباب الكثيف، فأكتشف كم كنت غِرًّا، لا أدري من أمري شيئًا.

في واحدة من النصوص الغارقة في الوهم كتبت عن كتابي "نسوة في المدينة": "ثمة أشياء ستحدث لي بعد نشر هذا الكتاب، سيشيع بين القراء شيوعًا كبيرًا، وسيطبع عدة طبعات عربية ومحلية، وسيزوّره تجار الكتب. أما أكثر الأحداث توقعًا فهي ترجمة هذا الكتاب إلى أكثر من ثلاثين لغة، وسأجني منه مبلغًا من المال يفوق المليون دولار، وليس هذا وحسب، بل سأصبح كاتبًا عالميًا ومشهورًا، وتستضيفني الفضائيات العربية وشبكات التلفزة العالمية، وستنشر عنه كبريات الصحف كثيرًا من المراجعات في الباب المخصّص لعرض الكتب المهمة، وسيتصدر هذا الكتاب قائمة الكتب الأكثر مبيعًا والأكثر قراءة والأكثر تأثيرًا في حياة القراء. إنه كتاب ممتع بحق!

إن هذا الكتاب على ما فيه من أفكار، ومن سرد، سيكون كتابًا طاغيًا، ليس لأنه يتحدث عن كاتبه كما هو عار عن كل بلاغة وجمال لغويّ، بل لأنه ذلك الكتاب الذي سيشكل علامة فارقة في مسيرة الكتب التي تتحدث عن شيء مجهول حتى لكاتبه غير المعروف حتى لحظة إنشائه أول جملة فيه.

ثمة شيء غامض هنا، ولكنه بالفعل واضح حتى شفافية النور المطلقة. فقط أتوقع أن يكون كتابًا عالميًا، له ما له من أهمية لا يمكن تجاوزها!

يا لهذه التوقعات السخيفة الجديرة بالهلوسة، ليس إلا".

إن هذا بالضبط ما أشعر به، وإن سخرت من ذلك تخفيفًا من وقع الكتابة وما ستثيره من "قرف" واستهزاء في نفوس القراء، ولكنني لم أستطع إلا أن أكون صادقًا مع نفسي في كل كتاب ألفته، ومع كل كتابة أنشأتها.

حلمت كثيرًا وتوهمت طويلًا أنني ذلك الكاتب الذي سيملأ الدنيا، ويشغل الناس، ولم أكتشف أن الكتابة مجرد "فضيحة" صغيرة ولعنة طويلة الأمد ستصاحبني سنوات طويلة، ولن تتوقف إلا بانتهاء الأجل، لتنتهي رحلة الوهم الذي كان يلعب بخيالي كأنني أعظم كاتب تصدّق الله به على البشرية، ولم تحسن البشرية التمتع بهذه النعمة الكبيرة.

مع كل كتاب، ومع كل كتابة، أستحق الرثاء أو "ما يشبه الرثاء"، هذه هي معضلتي الحقيقية، وربما معضلة الكتاب جميعًا، وإن نجا بعضهم من الوهم في لحظات نشوة عابرة، إلا أن تلك "اللحظة من الوهم" ستظل تحوم في رؤوس الكتاب، مثل ذبابة تظل تزعجهم كلما طنّت بأجنحتها لتكون الظرف الطوعي لتفريخ الأفكار، لكنهم بكل تأكيد مجبرون على أن يكتبوا، طردًا للوهم أو استحضارًا له أو تجليًا من تجلياته المُسْكِرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إطلالة على العالم الحديث

زاوية رؤية حادة