07-يوليو-2020

كلاكيت فيلم كوستا غافراس "Adults in the Room" (لويزا غولياماكي/ا.ف.ب/Getty)

يحضر الوقت عبر الشرائط السينمائية، تسجيلية وتخيلية، بدوره أحد المرتكزات الأولية والأسئلة الأكثر حرجًا في تقديم العمل، بل في أسس بناءه الأولية. مماحكة الوقت هذه ليست من بين ما تتفرد به السينما دونًا عن فنون السرد الأخرى، ليمكن القول أن الوقت عقدة السرد، قبل أن يكون إحدى عقد السينما أو الرواية أو المسرح أو الشعر كما السبنوغرافيا أو الفوتوغرافيا إلى حد من الحدود، إن لم يقع القول أنه عقدته الأبرز ليس تقنيًا فقط. لكنه، أي الوقت، يبقى صاحب إشكالية فريدة عندما يحضر سينمائيًا.

 من حق مسألة الوقت سينمائيًا التأرجح الهجين، ما يتيح في أحد جوانبه الجمالية مفاضلة غير مدرسية يستحقها احتجاز اللحظة بتحويل الضوء المعبر عنها إلى فيزياء تمثيلية ثابتة ومتحركة في وقت واحد ليس ببعيد عن سؤال الزمن بذاته

إذ بحضور سؤال الوقت سينمائيًا لا يكون الحديث قد ابتسر ليقتصر على الوقت اللازم للانتهاء من مدة عرض الشريط، ولا إعداده حتى، إنما يصار إلى التعاطي مع شبكة علائقية كبرى متصلة بترتيب الأحداث وارتباطها من عدمه، ليضاف إليها علاقة العلاقات التي تتخلل الأحداث صانعة الحدث السينمائي بشكله الأخير، أي الشريط الكامل بعد أخر قفلة توليف.

اقرأ/ي أيضًا: سينما الضوء الشفاف

أما بوصف الصورة ومنها الصورة المتتالية، أي السينمائية كحاصل متكامل لتشكيل ما من اللقطات، على أنها تكثيف للضوء ووقف لوقت هذا الضوء أو تحويل التوقف لديه عبر احتجازه من شكل فيزيائي إلى آخر يفتح الضوء الذي تجري وراءه السينما عدة مداخل للوقت، ليس بدوره تحد سينمائي، أو لصناعة السينما، بقدر ما هو قضية أساسية من القضايا السينمائية/ الضوئية. لذلك يصعب اعتماد نظرية كبرى تتعلق بالوقت في الصنعة السينمائية، هذا تبعًا لشكل الضوء المرصود وكميته كما اتجاهاته.

كما لاتجاهات الضوء السينمائي وقتيًا حصة شاسعة من التقرير بخصوص سؤال الوقت عينه، هذا أن تعاطي المنتج السينمائي، شكلًا وحضورًا، يفرض وقت الشريط أو شكل حضور الوقت في الشريط لا العكس. بمعنى أن عملية استنباط الوقت السينمائي ليست ذات صلة بالمتلقي أو عملية الاستقبال من أصلها، أي أن بديهة وملاحظة كما نباهة المشاهد/ة وفطرتهما على تنوعها تبقى خارج مساءلة الوقت سينمائيًا بشكل تام.

بكلام آخر، يمكن القول أن السينما توفر مسؤولية وقتية ترتبط بأن ما يتم إنفاقه من وقت أمام تتابع الصور السينمائية هو عينه الوقت السردي الذي تطرحه لا غيره، ليكن كل ما دون هذا الوقت مجرد علاقات زمكنة تمثيلية، تمامًا كالديمقراطية البرلمانية، بخصوص مدة الحدث لا وقته ليست السينما المتورط الوحيد في تأويل هذه العلاقة بطبيعتها. بذلك تتوفر مساحة كافية للقول أن السينما تتعاطى الوقت، دون أن تستهلكه، بأدوات الوقت ذاته. في حين تتوفر السينما على تحد بخصوص الوقت، ليس من بين المتوفر لغيرها من أدوات السرد وفنونه، مرد هذا التحدي تشابك البصري بالسمعي والإحساس بالوقت، لا واقع الوقت بالضرورة، ثالثهما. فلا ينتظر من السينما وصف الأحداث وترتيبها فقط، أو تقديمها بقالب يحفز المخيال، إنما هي عملية خلق للمخيال في جانب، وتحريك للأحداث والعلاقات التي تتخللها في جانب رديف، مع حضور سؤال الوقت مجددًا ودائمًا على عتبة الحواس البشرية كاملة.

 توفر السينما مسؤولية وقتية ترتبط بأن ما يتم إنفاقه من وقت أمام تتابع الصور السينمائية هو عينه الوقت السردي الذي تطرحه لا غيره، ليكن كل ما دون هذا الوقت مجرد علاقات زمكنة تمثيلية، تمامًا كالديمقراطية البرلمانية، بخصوص مدة الحدث لا وقته

لذلك كله يحضر عنصر الملل أمام الكثير من شرائط السينما بينما يغيب أمام كثير من شرائط أخرى. هذا بوصف الإحساس الممل بالوقت بما هو إحدى تعبيرات السأم البشري عند تراجع الأدرنالين إلى أقصاه رفقة هرمونات أخرى وجدت السينما طريقها لنسج علاقة بمستويات إدمانها البشري. بذكر الهرمونات والملل ومعهما سؤال الوقت الأوسع، خصوصًا في السينما، الذي قد يحضر كسؤال توقيت في الوقت عينه، يتضح جزء من استفهام الاقتناع بالتمثيل الوقتي لحدث ما، كالسباحة أو العلاقة الجنسية، في شريط  بينما يغيب الاقتناع بشأن حدث مماثل في شريط آخر. هنا تمامًا تترك المساحة لثالوث الوقت الحقيقي في السينما بين المخرج وبين المؤلف وثالثهما المولف.

عبر الثالوث السينمائي سابق الذكر تفتتح خيارات التعاطي مع الوقت في السرد السينمائي، هنا ينصب الضوء حكمًا في جانب، خاصة من خلال زوايا اللقطات، إذ يمكن للهبوط من زاوية عين الطائر إلى زاوية مستوى النظر مثلًا الانتقال بالحدث بين تعبيرات زمنية تمثل توقيتات متباعدة أو أقله متباينة. كما يمكن للتعبير الضوئي، كمًا وإضاءة، عن السرد نفسه عبر استحضار وقت على حساب وقت أو الانتقال بوقت نحو وقت أجدد أو العودة به إلى جذره حتى أن يكون أحد وجوه تمثيل الوقت في الشريط. ليبدو أخيرًا أن من حق مسألة الوقت سينمائيًا التأرجح الهجين، ما يتيح في أحد جوانبه الجمالية مفاضلة غير مدرسية يستحقها احتجاز اللحظة بتحويل الضوء المعبر عنها إلى فيزياء تمثيلية ثابتة ومتحركة في وقت واحد ليس ببعيد عن سؤال الزمن بذاته.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف بدأت أفلام الرعب؟

فيلم "Persona" لإنغمار برغمان.. ثنائية الوجه الحقيقي والقناع