07-أبريل-2016

معرض للوشم الأمازيغي (جاك ديمرتون/أ.ف.ب)

كعادتها كل صباح، تحمل كرسيها الخشبي العتيق، تبحث عن زاوية في فناء المنزل لتترصد أشعة الشمس، لتعود الحياة من جديد إلى جسدها المنهك. "خالتي فاطمة" هكذا يناديها سائر سكان القرية، عجوز في التسعين من عمرها، موسوعة حية لذاكرة وحكايات القرية، أول ما يلفت النظر حين تراها تلك الأوشام الزرقاء التي على جبهتها وذقنها، سألتها يومًا عن سر ذلك، فأجابتني "يا بني، تلك قصتي مع الحياة دونت كذاكرة تنام على جسدي".

الوشم طريقة طقوسية قديمة تمتد لعديد الثقافات والحضارات، وقد تجلت خصوصًا في الموروث الثقافي الأمازيغي

لا تزال الكثير من الأوشام مرسومة على أجساد النساء المتقدمات في السن، فمن النادر أن تجد امرأة من الأجيال السابقة يخلو جسدها من وشم، فالوشم طريقة طقوسية قديمة تمتد لعديد الثقافات والحضارات، ولكنها تجلت خصوصًا في الموروث الثقافي الأمازيغي، فلقد كان الوشم على جسد الفتاة بمثابة دعوة صريحة للزواج، لقد كان الوشم علامة للنضج والخصوبة، كما تقوم النسوة برسم ما تعشنه من أفراح وأحزان على شكل أوشام في مناطق مختلفة من أجسادهن، فكان الوشم بعد الآخر، فلكل واحدة منهن قصة وحكاية، تتراوح بين حكايات الألم وقصص الأمل.

اقرأ/ي أيضًا: ما معنى أن تكون جزائريًا؟

إحدى تلك القصص ارتبطت بإحدى أشهر قصائد الحب في الشعر الشعبي، وهي قصيدة "الوشام" التي كتبها الشاعر الشعبي محمد بن مسايب منذ قرون، قصيدة تصور عاشقًا في لحظة رسم الوشم وهو يروي ذكرياته مع حبيبته فيقوم "الوشام" بتجسيد تلك القصص على هيئة أوشام، فالدلالة الجمالية للوشم صارت محل إلهام للشعراء والفنانين، إن الحكايات المرتبطة بظاهرة الوشم لا نهاية لها.

في الجزائر، ظل الوشم الأمازيغي التقليدي جزءًا مهمًا من كيان الأشخاص، بل أن أي شخص يحمل على جسده وشمًا يسجل ذلك على بطاقة هويته الرسمية كعلامة خصوصية. تؤكد فاطمة فائز، باحثة في أنتروبولوجيا الدين والثقافة الشعبية، أن "الوشم يدخل ضمن آداب السلوك الاجتماعي، يرتبط بالجسد الموشوم وبحياته، ويموت بموته، كما يشكل جسرًا للربط بين ما هو روحي ومادي في الجسد ذاته". وللوشم كذلك رمزية اجتماعية وسياسية قوية، فهو يشكل أساس الانتماء الاجتماعي وركيزة الإحساس بالانتماء الموحد، والشعور بالهوية المشتركة، ولقد اهتم عديد الباحثين في التاريخ وثقافات الشعوب بموضوع الوشم، وحاولوا فك شفرة تلك الرموز ومعانيها.

ومن بين تلك الدراسات نجد كتاب "الجمال والهوية الأنثوية، الأوشام البربرية لمنطقتي بسكرة وتقرت" للباحثة الفرنسية لوسيان بروس، والصادر عن "دار خطاب"، الكتاب كان نتاج بحث عميق لفك طلاسم الرموز والأوشام، وكان منطلقه صور التقطتها "إيليان أوكر" في عديد مناطق الجزائر أثناء مزاولتها لعملها كممرضة، صور لنساء يحملن رموزًا خضراء وزرقاء على أجسادهن، حالة خاصة تنفرد بها الثقافة الأمازيغية العريقة. وحمل الكتاب شهادات حية لنساء من منطقتي القبائل والأوراس، أكبر منطقتين ينتشر فيهما الوشم في الجزائر، وقامت "إيليان بروس" بمزج الصور بالشهادات وما سمعته من القصص الشعبية، لتنتج أحد أجمل البحوث عن موضوع الوشم، وقدمت عملًا سيساهم في الحفاظ على جزء بدا يتلاشى من هوية وموروث الجزائريين.

كان الوشم عند الأمازيغ علامة للنضج والخصوبة، كما تقوم النسوة برسم ما تعشنه من أفراح وأحزان على شكل أوشام في مناطق مختلفة من أجسادهن

قصة أخرى جميلة، لباحثة أمريكية من أصل جزائري، ياسمين بن داعس، باحثة في الأنثربولوجيا بجامعة "واك فورست" بكارولينا الشمالية، اكتشفت هويتها الجزائرية عن طريق ألبوم صور العائلة، ولفت نظرها بعض الصور لعمات وخالات والدها وهن يحملن رموزًا غريبة على وجوههن. قامت بحجز تذكرة سفر للجزائر، قضت شهرين في محافظة "باتنة" شرقي العاصمة، وبدأت في البحث عن ماهية تلك الرموز، ونشرت عدة مقالات وبحوث في عديد المواقع والصحف العالمية عن الموضوع.

اقرأ/ي أيضًا: الأمازيغية في الجزائر.. من السجن إلى الدستور

وحاولت ياسمين استقصاء أكبر عدد ممكن من الحالات، فتوصلت إلى فهم الكثير من معاني تلك الأشكال المتشابهة على وجوه النسوة اللاتي قامت بمحاورتهن، معاني قامت بحصرها في ثلاثية الحب، الجمال والألم، كما نوهت ياسمين بن داعس بارتباط بعض الأوشام بالمعتقد الديني كالنجمة والهلال والصليب رغم أن قراءة الوشم وتفسيره يبقى قضية اجتهاد شخصي قد يختلف من باحث إلى آخر.

الوشم في الثقافة التقليدية الجزائرية لا يخص المرأة فقط، بل حتى الرجال، ولكن في العادة تكون الأوشام الرجالية بسيطة وغير مبالغًا فيها، لكننا الآن نلاحظ بداية اندثار هذه الظاهرة، ويعود ذلك لأسباب اجتماعية وثقافية ودينية، فحتى الكثير ممن يحمل تلك الأوشام بدؤوا في السعي لإزالتها، فمع ظهور أدوات الزينة والتجميل وكثرتها في الأسواق لم يعد للوشم من فائدة ولا حتى من دلالة روحية، فلذلك وجب إنجاز الدراسات والبحوث حول هذه الحالة المتميزة من موروثنا الشعبي القديم، قبل أن تطالها موجة النسيان كما كان الحال مع الكثير من العادات ومكونات الهوية الأمازيغية الأصيلة.


الوشم الجزائري(Getty)

اقرأ/ي أيضًا:

تدريس الأمازيغية في الجزائر..الواقع والمأمول

تخييط الأفواه وتمزيق الجسد..لغة الاحتجاج الجزائرية