05-يناير-2021

الصورة من "Foreign Affairs"

نشر فرانسيس فوكوياما، المفكر الأمريكي الشهير، هذه المقالة في آب/أغسطس 2020، في مجلة Foreign Affairs، وهنا ترجمتها العربية.


تنتج الأزمات الكبرى نتائج كبرى تكون غير متوقعة غالبًا، فهكذا أدى الكساد العظيم (The Great Depression ) إلى نزعات الانعزالية، والقومية، والفاشية، وإلى الحرب العالمية الثانية – بل وحتى إلى الصفقة الجديدة (New Deal) وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية، وإنهاء الاستعمار أخيرًا. كما أنتجت هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر تدخُلين أمريكيَين فاشلين، أدّيا إلى صعود إيران وبروز أشكال جديدة من التطرّف الاسلامي، وفي الإطار نفسه أدت الأزمة المالية لعام 2008 إلى طفرة في الشعبوية المناهضة للمؤسسات التي حلَّت محل القادة في جميع أنحاء العالم، وبناء على ذلك سيتتبع مؤرخو المستقبل بشكل مماثل الآثار الكبرى لوباء فيروس كورونا الحالي، ليكون التحدي هو اكتشاف هذه الآثار في وقت مبكر.

لقد أصبح من الواضح بالفعل لماذا كان أداء بعض الدول أفضل من غيرها في التعامل مع الأزمة حتى الآن، وثمة ما يدعو للاعتقاد بأن هذه التوجهات ستستمر مستقبلًا

لقد أصبح من الواضح بالفعل لماذا كان أداء بعض الدول أفضل من غيرها في التعامل مع الأزمة حتى الآن، وثمة ما يدعو للاعتقاد بأن هذه التوجهات ستستمر مستقبلًا، والمسألة هنا لا علاقة لها بنوع النظام ذلك أن أداء بعض الديمقراطيات كان جيدًا على عكس بعضها الآخر، والأمر ذاته ينطبق على الأنظمة الاستبدادية.

اقرأ/ي أيضًا: حسونة المصباحي يكتب يوميات الكورونا.. يوميات الغضب والأدب

وتتمثّل العوامل المسؤولة عن التَّعامل الناجح مع الوباء في قدرة الدولة على مواجهتها والثِّقة الاجتماعية، والقيادة، ومن هنا كان أداء البلدان التي تمتلك الأجهزة الثلاث: جهاز حكومي كفء وحكومة يثق بها المواطنون ويمتثلون لتعليماتها، وقادة فعالون.. مثيرًا للإعجاب، وهو ما حدّ من الضرر الذي لحق بها، وفي الوقت ذاته تصرّفت الدول التي تعاني من خلل وظيفي، أو مجتمعات مستقطبة، أو قيادة ضعيفة بشكل سيئ، تاركة مواطنيها واقتصاداتها مكشوفة وهشّة. 

وكلَّما تمَّ التعرف أكثر على كوفيد 19- المرض الناجم عن الفيروس التاجي الجديد- كلما ظهر أن الأزمة سيطول أمدها لتقاس بالسنوات وليس بالثلاثيات. ورغم أن هذا الفيروس يبدو أقل فتكًا مما كنا نعتقد إلا أنه شديد العدوى، وغالبًا ما ينتقل من دون أعراض، عكس الإيبولا الشديدة الفتك والتي يصعب التقاطها، ويموت ضحاياها بشكل سريع قبل أن يتمكنوا من نقلها، وهذا يعني أن الناس يتجهون إلى عدم أخذ الأمر بالجديّة المطلوبة، وهو ما يجعل الفيروس ينتشر، وسيستمر في الانتشار على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، مُسببًا أعدادًا هائلة من الوفيات، وبذلك لن تأتي تلك اللحظة التي تستطيع فيها البلدان إعلان الانتصار على المرض. وفي المقابل ستنفتح الاقتصادات بشكل بطيء ومؤقت، مع تباطؤ التقدم بسبب موجات العدوى اللاحقة. ويبدو أن الآمال في حدوث انتعاش حاد سريع a V-shaped recovery هي آمال متفائلة للغاية، وفي المقابل سيكون النموذجان المحتملان للتعافي هما النموذج L الصاعد أو سلسلة *W ، أي أن الاقتصاد العالمي لن يعود إلى أي من حالاته التي سبقت كوفيد 19 في أي مدى منظور.

وتعني الأزمة الطويلة الأمد من الناحية الاقتصادية المزيد من حالات الاخفاق التجاري، وتدميرًا للأعمال التجاريّة مثل مراكز التسوق، وسلاسل البيع بالتجزئة، والرحلات الجويّة. لقد ظلَّت مستويات تركيز السوق في الاقتصاد الأمريكي ترتفع بشكل مطرد لعقود، وسيؤدي الوباء إلى استمرارها بشكل أكبر، وستكون الشركات ذات الإمكانيات الكبيرة وحدها القادرة على تجاوز العاصفة، مع تحقيق عمالقة التكنولوجيا للربح الأهم في هذه الحالة، باعتبار أن التفاعلات الرقمية ستصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.

وقد تكون العواقب السياسية للوباء أكثر أهميّة، فعلى الرغم من أنه يمكن دعوة الشعب لأعمال بطوليّة من قبيل التضحيّة الجماعيّة بالنفس لبعض الوقت، ولكن ليس إلى الأبد. وإذا استمر الوباء مقرونًا بفقدان مكثف للوظائف، وركود متواصل، وعبء غير مسبوق للديون فإن ذلك سيخلق حتمًا توترات ستتحوّل إلى رد فعل سياسي عنيف، لم يتضح بعد ضد من سيكون.

 أخفقت الولايات المتحدة في ردها بشكل سيئ، وشهدت هيبتها وهي تتدهور بشكل كبير:

سيستمر التوزيع العالمي للقوة في التحوُّل نحو الشرق، ذلك أن أداء شرق آسيا كان أفضل من أوروبا أو الولايات المتحدة في إدارة الأزمة، فعلى الرغم من أن الوباء نشأ في الصين، وتستَّرت عليه بكين في البداية وسمحت له بالانتشار، إلا أنها ستستفيد من الأزمة نسبيًا على الأقل. وكما حدث، فإنّ أداء الحكومات الأخرى كان هزيلًا في البداية وحاولت التستر عليه أيضًا بشكل أكثر وضوحًا وبعواقب أشدّ فتكًا بمواطنيها من الحالة الصينيّة، ومع ذلك تمكنت بكين على الأقل من استعادة السيطرة على الوضع، وهي في طور الانتقال إلى التحدي الموالي وهو إعادة اقتصادها إلى العمل بشكل سريع ومستدام.

سيستمر التوزيع العالمي للقوة في التحوُّل نحو الشرق، ذلك أن أداء شرق آسيا كان أفضل من أوروبا أو الولايات المتحدة في إدارة الأزمة

وعلى النقيض من ذلك، أخفقت الولايات المتحدة في تعاملها مع الأزمة، وهيبتها تشهد تدهورًا بشكل كبير، رغم كونها البلاد التي تتمتع بقدرات دولة ذات إمكانيات هائلة، وتمكّنت من بناء سجل حافل مثير للإعجاب فيما يتعلق بالأزمات الوبائية السابقة، إلا أنّ مجتمعها الحالي شديد الاستقطاب وزعيمها غير الكفء منعا الدولة من العمل بفعالية. فقد قام الرئيس بإذكاء الانقسام بدلًا من تعزيز الوحدة، وتسييس توزيع المساعدات، ودفع المسؤولية إلى حكام الولايات لاتخاذ القرارات المهمة بينما يقوم هو بتشجيع الاحتجاجات ضدهم لحماية الصحة العامة، كما هاجم المؤسسات الدولية بدلًا من تحفيزها، والعالم اليوم بإمكانه مشاهدة التلفزيون ويتابع ذلك في ذهول، وسارعت الصين بجعل المقارنة بين أداء الدولتين واضحة.

اقرأ/ي أيضًا: عالم ما بعد الكورونا

إنّ هذا الوباء قد يؤدي إلى تدهور نسبي للولايات المتحدة على مدى السنوات القادمة واستمرار تآكل النظام الدولي الليبرالي، وصعود الفاشية في جميع أنحاء العالم، كما يمكن أن يؤدي أيضًا إلى ولادة جديدة للديمقراطية الليبرالية، وهي نظام أربك المتشككين عدة مرات، وأظهر قدرات لافتة من المرونة والتجدد، وستظهر عناصر كلا الرؤيتين في أماكن مختلفة من العالم، ولسوء الحظ إن لم تتغير الاتجاهات الحالية بشكل كبير، فإن التوقعات العامة قاتمة.

هل سيؤدي ذلك إلى صعود الفاشية؟

من السَّهل تصوّر النتائج المتشائمة لتفشي الوباء، وهي تزايد نزعات القومية والانعزالية وكراهية الأجانب، والهجمات على النظام العالمي الليبرالي لمدة سنوات، وهو اتجاه لن يسرعه سوى الوباء، فقد استغلت الحكومتان في المجر والفلبين الأزمة لمنح نفسها سلطات استثنائية، وهو ما جعلها أكثر بعدًا عن الديمقراطية، كما اتَّخذت العديد من البلدان الأخرى بما في ذلك الصين والسلفادور وأوغندا تدابير مماثلة، بحيث ظهرت عراقيل أمام حركة الناس في كل مكان، بما في ذلك في قلب أوروبا. وبدلًا من التعاون البنَّاء من أجل المصلحة المشتركة، تحوَّلت الدول إلى الداخل، تتخاصم فيما بينها، جاعلة من منافسيها كبش فداء سياسي للتغطية على إخفاقاتها الخاصّة.

وصعود النزعة القومية من شأنه أن يزيد من احتمالات نشوب صراع دولي، وقد يرى الزعماء أن المعارك مع الأجانب تشكل إلهاء سياسيًّا داخليًا مفيدًا، أو قد يغريهم ضعف أو انشغال خصومهم فيستغلون الوباء لزعزعة استقرار أهدافهم المفضلة، أو خلق وقائع جديدة على الأرض. ورغم ذلك فإنّه في وجود القوة المستمرة المثبّتة للاستقرار، وهي الأسلحة النووية والتحديات المشتركة التي تواجه جميع اللاعبين الرئيسيين، فإن إمكانية حدوث اضطراب دولي أقل احتمالًا من حدوث اضطراب محلي.

وستتعرَّض البلدان الفقيرة ذات المدن المزدحمة وأنظمة الصحَّة العامَّة الضعيفة لضربة قوية، ليس فقط على مستوى التباعد الاجتماعي ولكن حتى على مستوى النظافة الصحية البسيطة مثل غسل الأيدي، الذي هو أمر في غاية الصعوبة في البلدان التي لا يحصل فيها الكثير من المواطنين على المياه النظيفة بشكل منتظم. وكثيرًا ما جعلت هذه الحكومات الأمور أكثر سوءًا بدلًا من تحسينها عمدًا، سواء عن طريق التحريض على التوترات الطائفية وتقويض التماسك الاجتماعي، أو ببساطة بسبب انعدام الكفاءة. فقد تسببت الهند على سبيل المثال في إضعاف نفسها بإعلانها إغلاقًا مفاجئًا على مستوى البلاد دون التفكير في العواقب المترتبة عن ذلك على عشرات الملايين من العمال المهاجرين الذين يتجمَّعون في كل مدنها الكبرى، فقد ذهب الكثيرون إلى منازلهم الريفية ناشرين المرض في جميع أنحاء البلاد، وبمجرد أن عكست الحكومة موقفها وبدأت في تقييد الحركة، وجد عدد كبير منهم أنفسهم محاصرين في المدن دون عمل أو مأوى أو رعاية.

 أخفقت الولايات المتحدة في تعاملها مع أزمة كورونا، وهيبتها تشهد تدهورًا بشكل كبير، رغم كونها البلاد التي تتمتع بقدرات دولة ذات إمكانيات هائلة

وكما كان النزوح النَّاجم عن تغيُّر المناخ يشكّل بالفعل أزمة بطيئة الحركة تختمر في الجنوب العالمي، فإنّ الجائحة ستؤدي إلى تفاقم آثارها، جاعلة عددًا كبيرًا من السكان في البلدان النامية يعيشون وضعًا أقرب إلى الكفاف. لقد حطَّمت هذه الأزمة آمال مئات الملايين من الناس في البلدان الفقيرة الذين استفادوا من عقدين من النمو الاقتصادي المستدام، وسينمو الغضب الشعبي، ذلك أن تحطم التوقعات المتزايدة للمواطنين هو في النهاية وصفة كلاسيكية للثورة. وسوف يسعى اليائسون إلى الهجرة، وسيستغل القادة الديماغوجيون الموقف للاستيلاء على السلطة، وسيغتنم السياسيون الفاسدون الفرصة لسرقة ما يمكنهم سرقته، وستقوم العديد من الحكومات إما بتشديد الخناق على مواطنيها أو الانهيار. وفي أثناء ذلك، ستقابل موجة جديدة من محاولات الهجرة من جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها بتعاطف أقل ومقاومة أكبر هذه المرة، حيث سيكون اتهام المهاجرين بجلب المرض وإحداث الفوضى أمرًا معقولًا أكثر هذه المرة.

اقرأ/ي أيضًا: أزمة الخطاب الإعلامي المرئي في زمن الكورونا

وأخيرًا، لا يمكن التنبؤ بظهور ما يسمى بحكم التعريف بالبجعات السوداء**، لكن من المرجح أن ينظر المرء بشكل متزايد إلى أبعد من ذلك، فقد عززت الأوبئة السابقة الرؤى حول نهاية العالم، وظهور النزعات والأديان الجديدة التي نشأت في ظل وجود القلق الشديد الناجم عن المكابدات الطويلة الأمد، ويمكن اعتبار الفاشية في الواقع، إحدى هذه النزعات، فقد انبثقت عن العنف والاضطراب اللذين ولّدتهما الحرب العالمية الأولى وآثارها الكارثية. كما أن نظريّات المؤامرة التي كانت تزدهر عادة في أماكن مثل الشرق الأوسط، حيث كان الناس العاديون مستضعفين ويشعرون بالعجز، أصبحت تنتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء البلدان الغنية أيضًا، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى البيئة الإعلامية المتصدعة التي تسببها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ من المرجح أن توفر المعاناة المتواصلة مادَّة دسمة يستغلها الديماغوجيون الشعبويون.

أم إلى ديمقراطية قادرة على الصمود؟

ومع ذلك، وكما لم يؤدِّ الكساد العظيم إلى الفاشية فحسب، بل إلى إعادة تنشيط الديمقراطية الليبرالية، فإن هذا الوباء قد يؤدي إلى بعض النتائج السياسية الإيجابية أيضًا، لقد تطلَّب الأمر في كثير من الأحيان مثل هذه الصدمة الخارجية العظيمة لخروج الأنظمة السياسية المتصلبة من سباتها، وخلق الظروف المناسبة للإصلاح الهيكلي الذي طال انتظاره، ومن المرجَّح أن يتكرر هذا النمط مرة أخرى، على الأقل في بعض الأماكن.

فللتعامل مع الوباء تحبِّذ الوقائع العملية عنصري الاحترافية والخبرة، أمّا الديماغوجية وعدم الكفاءة فينكشفان بسهولة، ويجب أن يؤدي هذا في نهاية المطاف إلى تأثير مفيد في عمليّة الانتقاء، بمكافأة السياسيين والحكومات التي تصرفت بشكل جيد، ومعاقبة تلك التي تصرّفت بشكل سيئ. فعلى سبيل المثال حاول الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو Jair Bolsonaro الذي قام بإفراغ المؤسسات الديمقراطية في بلاده بشكل مستمر في السنوات الأخيرة- الالتفاف خلال الأزمة وهو الآن يتخبط ويترأس كارثة صحية، كما حاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين Vladimir Putin التقليل من أهمية الوباء في البداية، ثم ادعى أن روسيا سيطرت عليه، ولكنه سوف يغيِّر نبرته مرة أخرى مع انتشار كوفيد 19 في جميع أنحاء البلاد، لقد كانت شرعية بوتين تضعف بالفعل قبل الأزمة، وربما تسارعت هذه العملية الآن.

لقد سلَّط الوباء ضوءًا قويًّا على المؤسسات الموجودة في كل مكان، وكشف عن أوجه القصور والضعف فيها، كما عمَّقت الأزمة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، شعوبًا ودولًا، وستزداد أكثر اثناء فترة الركود الاقتصادي الممتد. ولكن إلى جانب المشكلات، كشفت الأزمة أيضًا عن قدرة الحكومة على توفير الحلول بالاعتماد على الموارد الجماعية في هذه العملية، يمكن للإحساس الذي لازال قائما "لوحدنا سويَّة" “alone together”أن يعزٍّز التضامن الاجتماعي، ويدفع نحو عملية تطوير حماية اجتماعية أكثر سخاء، تمامًا كما حفَّزت المعاناة القومية المشتركة في الحرب العالمية الأولى والكساد على نمو دول الرفاه Welfare State في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي.

سلَّط الوباء ضوءًا قويًّا على المؤسسات الموجودة في كل مكان، وكشف عن أوجه القصور والضعف فيها، كما عمَّقت الأزمة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، شعوبًا ودولًا

وقد تُخمد تلك الأشكال المتطرفة من النيوليبرالية إيديولوجية السوق الحرة التي ابتكرها اقتصاديو جامعة شيكاغو مثل جاري بيكر Gary Becker وميلتون فريدمان Milton Friedman وجورج ستيجلر George Stigle، فقد وفَّرت مدرسة شيكاغو خلال الثمانينيات تبريرًا فكريًا لسياسات الرئيس الأمريكي رونالد ريغان Ronald Reagan، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر Margaret Thatcher، الذين اعتبرا الحكومة الكبيرة المتدخلة intrusive government عقبة أمام النمو الاقتصادي والتقدم البشري، والواقع أنه كانت هناك أسباب وجيهة في تلك الفترة لتقليص العديد من أشكال الملكية والتنظيم الحكوميين، لكن هذه الحجج تصلَّبت لتتحوّل إلى ديانة ليبرالية، مُرسِّخة العداء لعمل الدولة في جيل من المثقفين المحافظين، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكيّة.

اقرأ/ي أيضًا: الوباء والأدب.. نبوءات ضائعة بين نجيب محفوظ وعباس بيضون

ونظرًا لأهمية الإجراءات القوية التي تتخذها الدولة لإبطاء الوباء، سيكون من الصعب ان نزعم كما فعل ريغان في خطاب تنصيبه الأوّل بأن "الحكومة ليست الحل لمشكلتنا.. الحكومة هي المشكلة"، ولن يتمكن أي شخص من تقديم حجة معقولة بأن القطاع الخاص والعمل الخيري يمكن أن يحلَّا محلَّ دولة مختصة أثناء حالة طوارئ وطنية، وخير مثال على الفرق الهائل بين الحالتين هو إعلان جاك دورسي Jack Dorsey، الرئيس التنفيذي لشركة Twitter في شهر نيسان/أبريل، أنَّه سيساهم بمليار دولار للإغاثة من كوفيد 19، وهو عمل خيري استثنائي، لكنه أقلّ بكثير من مبلغ 2.3 تريليون دولار الذي خصّصه الكونجرس الأمريكي في نفس الشهر لدعم الشركات والأفراد المتضررين من الوباء. ورغم أن مناهضة الدولة قد تطول بين المحتجين على الإغلاق، إلا أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الغالبية العظمى من الأمريكيين يثقون في نصائح خبراء الصحة الحكوميين في التعامل مع الأزمة، وهذا يمكن أن يزيد من الدعم للتدخلات الحكومية لمعالجة المشاكل الاجتماعية الرئيسية الأخرى.

كما قد تشجّع الأزمة في نهاية المطاف على تجديد التعاون الدولي، وبينما يلعب الزعماء الوطنيون لعبة إلقاء اللوم فيما بينهم، يعمل العلماء ومسؤولو الصحة العامة في جميع أنحاء العالم على تعميق شبكاتهم وروابطهم، وحتى إذا أدى انهيار التعاون الدولي إلى كارثة وحُكم عليه بالفشل، فإن الحقبة التي تلي ذلك قد تشهد التزامًا متجددًا بالعمل متعدد الأطراف لتعزيز المصالح المشتركة.

لا ترفع سقف آمالك

لقد كان الوباء بمثابة اختبار إجهاد سياسي عالمي a stress test وستخرج منه البلدان ذات الحكومات القادرة والشرعية بشكل جيد نسبيًا، وقد تتبنى إصلاحات تجعلها أقوى وأكثر مرونة، مما يسهِّل أداءها المتفوق في المستقبل، أما البلدان ذات القدرات الحكومية الضئيلة أو ذات القيادة الضعيفة فستكون في مأزق، وعرضة للركود، إن لم يكن لتفشي الفقر وعدم الاستقرار، والمشكلة هي أن المجموعة الثانية أكبر بكثير من المجموعة الأولى.

والمؤسف في الأمر أن اختبار الإجهاد هذا كان صعبًا للغاية لدرجة أنه من المحتمل أن لا يجتازه سوى عدد قليل جدًا، فللتعامل مع المراحل الأولية للأزمة بنجاح، لم تكن البلدان بحاجة إلى الحكومات القادرة والموارد الكافية فحسب، بل إلى قدر كبير من التوافق الاجتماعي، والقادة الأكفاء الذين بثوا الثقة في أوساط شعوبهم. وقد لبت كوريا الجنوبية هذه الحاجة، بتفويضها إدارة الوباء إلى جهاز إداري صحي محترف، وهو ما فعلته أيضا رئيسة وزراء ألمانيا أنجيلا ميركل، ومع ذلك فإن الأكثر شيوعا بكثير هي تلك الحكومات التي قصرت بشكل أو بآخر. وبما أنه سيكون من الصعب أيضًا إدارة ما تبقى من الأزمة، فإنه من المرجح أن تستمر هذه الاتجاهات القوميّة، مما يجعل التفاؤل بشكل أكبر أمرًا صعبًا.

كان سوء حظ الوللايات المتحدة الوحيد أن يكون الزعيم الأقل كفاءة والأكثر إثارة للانقسام في تاريخها الحديث في دفة القيادة عندما حلت أزمة الكورونا

وهناك سبب آخر يدعو للتشاؤم يتمثّل في كون السيناريوهات الإيجابية تفترض نوعًا من الخطاب العام العقلاني والتعلم الاجتماعي، في حين أن الصلة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي عندما كانت النخب تتمتع بسلطة أكبر، فقد أدى إضفاء الديمقراطية على السلطة التي حفزتها الثورة الرقمية إلى تسوية التسلسل الهرمي للمعرفة إلى جانب التسلسلات الهرمية الأخرى، وأصبح اتخاذ القرار السياسي الآن مُدجَّجًا بالثرثرة، وهذه بالكاد بيئة مثالية لمراجعة جماعية بنّاءة للذّات، ومع ذلك قد تبقى بعض الأنظمة السياسية غير راشدة لفترة أطول مما يمكنها أن تظل قادرة على حلحلة الوضع.

الصلة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي عندما كانت النخب تتمتع بسلطة أكبر

المتغير الأكبر في المشهد هو الولايات المتحدة، وقد كان سوء حظ البلاد الوحيد أن يكون الزعيم الأقل كفاءة والأكثر إثارة للانقسام في تاريخها الحديث في دفة القيادة عندما حلت هذه الأزمة، ولم تتغير طريقته في الحكم حتى تحت الضغط، فبعد أن أمضى ترامب ولايته في حالة حرب مع الدولة التي يترأسها، لم يكن قادرًا على توسيع ولايته بشكل فعال عندما اقتضى الوضع ذلك، وبعد أن رأى بأن أفضل ما يخدم ثرواته السياسية هو المواجهة والضغينة بدل الوحدة الوطنية، راح يستخدم الأزمة لافتعال النزاعات، وزيادة الانقسامات الاجتماعية. ورغم أن ضعف الأداء الأمريكي خلال الوباء يعود إلى عدة أسباب، إلا أنّ أهمها هو فشل زعيم وطني في القيادة.

اقرأ/ي أيضًا: الأزمنة التي خلقها الوباء

وإذا ما منح الرئيس ولاية ثانية في تشرين الثاني/نوفمبر، فإن فرص انبعاث الديمقراطية بشكل أوسع أو النظام العالمي الليبرالي ستتضاءل، ومع ذلك فإنه ومهما كانت نتيجة الانتخابات فإن من المرجح أن يبقى الاستقطاب العميق في الولايات المتحدة، كما أن إجراء انتخابات أثناء الوباء سيكون عسيرًا، وستكون هناك حوافز للخاسرين الساخطين لتحدي شرعيتها. وحتى وإذا حكم الديمقراطيون البيت الأبيض وغرفتي الكونجرس معًا، فإنهم سيرثون دولة في حالة من الضعف، وستواجه المطالب بالفعل جبالًا من الديون والمقاومة الشديدة من بقايا المعارضة، وستكون المؤسسات الوطنية والدولية ضعيفة ومترنحة بعد سنوات من الانتهاك، وسوف يستغرق الأمر سنوات لإعادة بنائها - هذا إذا كان ذلك لا يزال ممكنًا على الإطلاق.

ومع المرحلة الأكثر إلحاحًا ومأساوية من ماضي الأزمة، يتجه العالم نحو عمل مضني وطويل ومحبط. سيخرج منه في النهاية، مناطق أسرع من الأخرى، ولكن من غير المرجح أن تحدث اضطرابات عالمية عنيفة، فقد أثبتت الديمقراطية والرأسمالية والولايات المتحدة جميعها، من قبل، أنها قادرة على التحول والتكيف، لكنها ستحتاج إلى سحب أرنب من القبعة مرة أخرى.

 

هوامش:

* نماذج التعافي الاقتصادي المذكورة: الشكل الذي يأخذ حرف  (V)يعني أن حدوث ارتفاع وتحسن سريع بعد بلوغ ذروة الركود الاقتصادي. النموذج الذي يأخذ شكل حرف (W) حيث يتعافى الاقتصاد بشكل سريع من الركود ولكن لا يستمر طويلا وتنتكس المؤشرات الاقتصادية مرة أخرى وتدخل في حالة تراجع كبير من جديد، أما النموذج الثالث للتعافي الاقتصادي يأخذ شكل حرف (W) حيث يتعافى الاقتصاد بشكل سريع من الركود ولكن لا يستمر طويلًا وتنتكس المؤشرات الاقتصادية مرة أخرى وتدخل في حالة تراجع كبير من جديد (المترجمة).

** نظرية البجعة السوداء (Black Swan Theory): نظرية تشير إلى عدم القدرة على التنبؤ بالأحداث النادرة وكأنها مستحيلة الحدوث. أخذت النظرية اسمها من طائر البجع، حيث كان الاعتقاد سائدًا أن كل طيور هذا النوع لونها أبيض، حتى تم اكتشاف البجع الأسود في غرب أستراليا في القرن الثامن عشر.

حتى يأخذ حدث ما صفة البجعة السوداء، يجب أن يكون مفاجئًا غير قابل للتوقع وله تأثير كبير، وبعد وقوعه تظهر التفسيرات التي تعتبِره قابلاً للتوقع. من الأمثلة على أحداث البجعة السوداء اختراعات الحاسوب والإنترنت وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.

 وصف النظرية الباحث اللبناني نسيم نقولا في كتابه "البجعة السوداء" (The Black Swan) عام 2007، إلا أن أول من استخدم المصطلح كان الاقتصادي جون ستيوارت ميل في القرن التاسع عشر عند حديثه حول تحديد التزييف (المترجمة)

 

اقرأ/ي أيضًا:

مفارقة جورجيو أغامبين حول كورونا

وباء كورونا وإعادة التفكير في سياسات الطوارئ