27-أغسطس-2020

تعليمات حول كورونا في القامشلي (Getty)

لم تخرج الاستراتيجية التي وضعها الأسد لمعالجة الآثار الصحية لتفشي كورونا بين رعايا دولته، عن تلك التي سبق له أن اعتمدها في معرض تصديه لانتفاضة السوريين 2011، والقائمة على مبدأ الإنكار. ففي حين قامت سياسة الإنكار في الحالة الأولى على كسب الوقت بقصد إعداد العدة لتعبئة أدوات القوة والقمع لارجاع السوريين إلى حظيرة الاستبداد الأسدية، فإن الإنكار في الحالة الثانية لم يخرج عن طبيعة الإنكار المترافق مع العجز عن فهم الظاهرة الكورونا، كما إيجاد الحلول المناسبة لها. الأمر الذي نتج عنه إصابة الذات العارفة "الرئيس" بالتوتر والضيق، على نحو لم يكن خروجها من هذا الضيق النفسي إلا عبر الميل للتعالي على الظاهرة، أي إنكارها عبر أساليب الخداع المعروفة، عبر ردها إلى الدعاية المغرضة والمؤامرة الكونية.

كان من المرتجى في مواجهة الأسد للكورونا أن يأخذ بعين الاعتبار آلام ومواجع رعاياه، التي تمخضت عن حربه السلطوية عليهم

كان من المرتجى في مواجهة الأسد للكورونا أن يأخذ بعين الاعتبار آلام ومواجع رعاياه، التي تمخضت عن حربه السلطوية عليهم سواء عبر تدميرها لنسيجهم الاجتماعي، أو عبر تأثيرها على أمانهم الاقتصادي. وذلك عبر مسارعته لوضع حد على حركة الميلشيات الايرانية الحاملة للفيروس، كي يجنبهم كارثة صحية لا قدرة لهم على تحملها، إلا أن نزعته الأنانية القائمة على حماية سلطته على حساب الناس، جعلته لا يرى إلا مجده الشخصي ويتجاهل الناس الذين بنوه.

اقرأ/ي أيضًا: استراتيجية الأسد لتشكيل مجلس شعب "متجانس" سياسيًا و"معسكر" شيوعيًا

إن تحريم الأسد على كوادر المشافي الحكومية في بداية انتشار الجائحة استخدامهم لأية وسيلة وقائية لحماية أنفسهم، بحجة عدم التسبب بنشر الذعر بين المواطنين دون داع، كما عدم تحمسه لتأمينها لهم لاحقًا بحجة الحصار الاقتصادي. ناهيك عن فشله في توفير الحد الأدنى من شروط العزل الصحي للأماكن التي أقامها للمصابين أو المشتبه بهم، على نحو انقلبت لتكون مركزًا لتفشي الوباء بدلًا من منعه. وصولًا إلى تخريبه لحملات العزل الجماعي التي كان يصارع لإنجاحها في المساء، لينقلب على نتائجها في النهار، عبر لامبالاته في تنظيم تجمعات الناس في سعيهم للحصول على قوت يومهم من الخبز.

لم تكن تحمل في طياتها إلا معنى واحدًا، ألا وهو تخلي السلطة الحاكمة عن رعاياها، الذين أصرت على التعامل معهم كحشد كبير من الجنود الذين تم الزج بهم في المعركة دون أي حماية تذكر، ومن ثم التغاضي عن ظروف مقتلهم عبر التعلل بنسبة العشرة بالمائة الطبيعية التي قد تصيب الجنود في الحرب. الأمر الذي لا يجد المرء تفسيرًا له إلا عبر رده لاستراتيجية "مناعة القطيع" التي قررت القيادة الأسدية فرضها على الناس، دون أن يخطر على بالها أن العمل بتلك السياسة لا يعني التخلي عن مسؤولياتها في توفير الحد الأدنى اللازم لانجاحها، سواء عبر تأمين المعازل الصحية المناسبة، أو عبر إنشاء المزيد من المشافي الميدانية المجهزة بالأدوات الطبية، كما عبر نشرها للوعي الصحي بفائدة ارتداء الأقنعة الشخصية والحرص على التقيد بها.

بدت سياسة النظام الإعلامية القائمة على تكميم الأفواه ومنع الحديث عن أي أعداد لها علاقة بالكورونا، كما في حادثة استدعاء المخابرات لمدير مستشفى المجتهد سامر خضر، والطلب منه تغيير أقواله التي كان قد صرّح بها لاحدى الإذعات المحلية بما يتعلق بتفشي الكورونا في مشفاه، منسجمة مع توجهات القصر الرئاسي الذي كان يصر على إنكار الواقعة والتعتيم عليها، بما يخدم مخططاته القتالية في زج المزيد من المليشيات الايرانية في حربه على بقية السوريين المشردين في خيام إدلب.

من سياسة التشدد في إنكار ظاهرة الكورونا ورفعها إلى مصاف الأمن القومي، إلى سياسة التهليل باكتشاف أثرها المزلزل في حياة السوريين، حضرت الألاعيب السياسية وغابت الروح الأخلاقية في تحمل المسؤولية عن انتشارها على هذا النحو المروع. فالمهم لدى صانع القرار السوري هو تحميل وزر الكورونا منذ الآن لقانون قيصر الذي يحاصر السوريين في حياتهم، فلقد أثبت الأسد أن السوريين في عرفه ليسوا أكثر من أرواح ميتة، يتاجر بحضورها عندما يتعلق الأمر بتحقيقه لبعض المكاسب الإعلامية على جبهة قانون قيصر، ويختفون من السجل الروحي للبشرية، عندما يتطلب الأمر مقايضتهم مع بعض الانتصارات على الجبهة الشمالية.

في مواجهة نظام الأسد لكورونا، حضرت الألاعيب السياسية وغابت الروح الأخلاقية في تحمل المسؤولية عن انتشارها على هذا النحو المروع

لطالما كانت الحروب والأوبئة في نظر عالم السكان الإنجليزي مالتوس أحد العوامل الإيجابية في ضبط التوازن بين كميات الغذاء المحدودة التي تنتجها الأرض والتزايد السكاني الذي يفوق إنتاجها بمرات عدة، أما الحروب من وجهة نظرة الأسد فقد ارتبطت بذهنه بأفضل الوسائل لردع المجتمع من التمرد على مستبديه، كما إحدى وسائل التطهير الديموغرافي لخلق المجتمع المتجانس الذي يسبح بحمد حاكميه.

اقرأ/ي أيضًا: انحلال أخوية المتحابين في الرئيس

تبدو نظرية بشار الأسد في الأوبئة تفوق نظريته في الحرب، فإذا كانت الحرب الوسيلة المثلى لخلق المجتمع المتجانس، فإن الأوبئة الوسيلة الفضلى لضمان الفعالية القصوى له. فعن طريق الأوبئة ونجاعتها في الاصطفاء الفعال يتمكن الحاكم من الحصول على جسد الفرد الأكثر مردوية، بينما يتخلص من الأقل مردوية وفعالية، على النحو الذي يجعل منه سيدًا قويًا مطاعًا بحق. فبشار الأسد مأخوذ هذه الأيام بعظمة الأوبئة، التي لا تفتأ تبشر بعظمته الروحية، من حيث قدرتها السحرية على ترسيم الفرق بينه وبينه الناس، من حيث رفعه إلى مصاف الأخيار المتعالين عن المرض وعوارضه، وبين الحشد البشري من الرعايا المذعورين، المحاطين بكل أنواع النقص والفناء، الذين مهما علا شأنهم، تظل قميتهم الروحية أو الوجودية أقل بقليل من القيمة الروحية للجراثيم، التي امتدحها الرجل ذات يوم وهجها الناس الذين تعيش بين ظهرانيهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل عادت الفرصة لإسقاط الأسد؟

مرض القصر الجمهوري