01-فبراير-2016

(Getty)

الواقفون على حافة الميس، لا ينتظرون إخلاء سبيل ولا إجلاء للمصير، لا يتناقشون. وإن رغبوا بالتفكير لن يجدوا فكرة برأسهم من الأساس للدلو فيها برأي. لا آثار لتلك الأشياء بعد المسح الكلي الذي طالهم من خلال تعليمات موظفي الشئون المعنوية المُمررة لهم من صول وقيادات الوحدة.

من يهاجمون شادي ومالك هم من يهاجمون أبوتريكة. المسألة ليست أخلاقية في حالة الشابين، وليست وطنية في حالة أبوتريكة

أيام العسكرة الطويلة التي أبعدتهم عن أي دليل يألفونه وجعلتهم يشعرون بخطورة أن يبقوا وحدهم. وصولًا بهم للاقتناع بأن شيئًا ما أكثر أمانًا في الوعي الجمعي للرفاق. كل ذلك بعد أن مرنّوا أنفسهم في ساعات الليل الأخيرة على الطاعة غير المشروطة والثواب والعقاب والحبس الانفرادي والمواعيد والنظام. ولذلك فتجدهم على حافة الميس كتماثيل في مقابل جثث غادرتها أرواحها، منهم فيهم. يتحايلون على الوقت لإضاعة أكثره أثناء تناولهم وجبة الغذاء دون الإخلال بواجبات الطاعة. فكل من بالوحدة جندي داخل الميس في حضرة رئيسه.

صباح السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير عام الثورة المصرية، هاتفني صديقي المُجند من وحدته العسكرية، مستفسرًا مني عما يحدث في البلاد خارج وحدته. أخبرته بانتشار الاحتجاجات الشعبية في بعض المحافظات. وأنها قد تكون ثورة. فأخبرني بأن قائد الوحدة أوقظهم مبكرًا هاتفًا فيهم "قوموا البلد بتخرب برا" طمأنته بأنه ما دام هكذا أخبرهم فلن يحدث خراب، فالقادم ثورة.

مساء الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير عام الثورة، ميدان التحرير، وصول المتظاهرين للميدان وهروب قوات الداخلية، وصول مدرعات الجيش، يستقبلها المتظاهرون بحذر وبهتاف الجيش والشعب يد واحدة حتى لا تطلق عليهم النيران كما فعلت مدرعات الداخلية في الصباح. شاب يلمح مدرعتين للحرس الجمهوري يمضيان بسرعة أكثر في عكس الاتجاه فيتبعهما، يجد بقية الذخيرة التي كانت تمد بها قوات الداخلية أثناء الاشتباكات. ينبه أصدقاءه ويضرمان النيران في المدرعتين في الحال. هتافات استهجان كثيرة وبعض السباب. لا يعطون لهم بالًا. كثير من العتاب. وفي الخلفية يشدو هتاف حذر.

ظهيرة الحادي والعشرين من شباط/فبراير عام الثورة، في السويس، دبابة تابعة للجيش يقبع بها بعض المقبوض عليهم. تتقدم سيدة اعتماد محمد غنيم (48 سنة) صوب قائد القوة تطالبه بإطلاق سراح ابنها. فلا يوافق فتستجديه فيأبى. فتنفعل عليه فلم يمض عشرة أيام على انتصار الشعب. فيأمر قائد المدرعة بأن يدهسها فتقف وهي تستبعد جدية الأمر. فينفذ الجندي ويدهسها. وسط محاولات الواقفين لتبرير ما حدث وغياب إعلامي كامل.

لم يكن يتخيل محمد أبو تريكة النجم الأول لجماهير الكرة المصرية في العشر سنوات الأخيرة، ما قد يواجهه حال اختلافه في وجهات النظر مع وجهة نظر الدولة. ففتحت له القضايا وتم الحجز على كافة أمواله منذة عدة شهور لاتهامه بمشاركته برأس المال في شركة سياحة اتهمت بتمويل جماعة الإخوان.

بقي أبوتريكة في مصر ولم يهرب وخرج ليؤكد بأنه سيظل. ولكن التعامل الإعلامي معه كان على النقيض تمامًا. فشوهوه وأطلقوا الشائعات وفندوا مشاهده العادية في ملاعب الكرة ومع الجماهير وشيطنوها وفسروها بدعمه للإخوان. لم تتأثر محبة أبو تريكة خارج البلاد وداخلها إلا عند الطبقة البرجوازية المصرية وفئة الموظفين، جميعهم صدقوا ما قيل في حقه دون انتظار لحكم محكمة. هكذا كان موقفهم، لا مكان للرواية الأخرى، لا مكان لانتظار البت في القضية.

في مصر، تحولت "أخلاق المجتمع وثوابته" إلى طاعة غير مشروطة للحذاء العسكري

فوجئت الشبكات الاجتماعية في اليومين الماضيين بمقطع مصور لشابين "شادي، أحمد مالك" كانا قد مرا للميدان في الذكرى الخامسة لـ"ثورة يناير". قاموا فيه بالسخرية من الجنود المصطفة لحماية الميدان من أي شغب محتمل، بإعطائهم عدة من الأوقية الذكرية. تخيلوا بأن الشغب يتوقف على التظاهرات لا على الأفكار، فلم تمنع مدرعاتهم وذخيرتهم الشابين من السخرية من الجنود قليلي الإدراك. اشتعلت شبكات التواصل الاجتماعي، جزء يؤيد ما فعله الشباب -وسط حالة الصمت الرهيب لأي حراك شعبي- وحقهم في السخرية التي تندرج بوصفها ضمن حرية التعبير. وجزء آخر يندد بالفعل غير الأخلاقي من الشابين. وطالب بعض الفنانين بحبسهم والبعض الآخر بتنظيف دور مياه الأقسام.

هكذا تحولت "أخلاق المجتمع وثوابته" وتلك المسميات الكريهة التي ينادون بها كل يوم من شرفاتهم علينا، لأن تكون طاعة غير مشروطة للبيادة العسكرية. وعلينا أن نهاجم الجميع حتى يتقلدوا بتقاليدنا. فمن يهاجمون شادي ومالك هم من يهاجمون أبو تريكة. المسألة ليست أخلاقية كما يتشدقون في حالة الشابين وليست وطنية في حالة أبو تريكة. المسألة في لعق البيادة عن قصد لأن شيئًا ما أقل أمانًا خارج الوعي الجمعي. جميعهم في هيستريا غاضبة على مسافة واحدة من كل ما يتسبب في الأرق للعسكري الأخضر. لا عقل لا رأس لا تحرر خارج القوالب. ولقد لفظهم الخوف عن الحياة من فترة بعيدة ولم يمنعهم عن اللعق. فباتوا جزءًا من البيادة من فرط توددهم لها.

ولكي تتسع الصورة أمامنا، فإن ما حدث في 52 لم يكن فقط انقلابًا، ولكنه كان شبه تأميم لكل شيء في الدولة ليكون تحت إشراف الجيش. كل الموارد وكل الهيئات والمؤسسات. ولم تُتح الفرصة لعبد الناصر والسادات أن يخرجوا عن ذلك.

لكن مبارك خرج عنه بعض الشيء عندما أطاح بالمشير أبوغزالة. لأنه لم يستسغ فكرة أن يترأس جمال مبارك من بعده حكم البلاد. ولذلك فإن انقلاب "3 يوليو" كان الفرصة الأكبر لتأميم كل شيء من أجل الجيش مرة أخرى ولكن بشكل أوسع. فطموحات التأميم الخالي لا تهدف فقط للموارد والمؤسسات والرقابة. ولكنها تهدف لأن يتحول المجتمع في شؤونه الخاصة رويدًا رويدًا لحفنة من الجنود يقفون على حافة الميس.

اقرأ/ي أيضًا: 

سيناء..الأسئلة المحرمة!

سفارات مصر.."في كل حتة مخبر"