10-يونيو-2017

تشييع جنازة اثنين من قتلى حزب الله في سوريا (أ.ف.ب)

دخل حزب الله اللبناني متاهة الموت السورية. حمل عتاده ونقل عديده عبر الحدود لخوض معركة من نوع آخر، على أرض أخرى وضد عدو تبدّلت أمامه ماهية سلاح الحزب وانكشفت أهدافه.

كيف أقنع الحزب جمهوره بقتال الشعب السوري على أرضه؟ وكيف استنهض الروح القتالية في الشباب اللبناني الشيعي للانخراط هذه المرّة في القتل والتشريد ثم في "الترنسفير" الداخلي والخارجي لملايين السوريين؟ لم يكن من حيلة أمامه ومن خلفه راعيه الإقليمي وحلفاؤه الدوليون، سوى العقيدة الدينية، فكانت ذريعة حماية المراقد المقدّسة في البدء، والتي كرّست مفهوم الواجب الجهادي الذي يقضي تحت مسمّاه مئات عناصر الحزب في سوريا بين معركة وأخرى، بين هزيمة وهزيمة.

وسط حالة التأييد الشعبي اللبناني للثورة السورية، لعب حزب الله على الوتر الديني للحشد من بين حاضنته دون غيرها

بين المعارك التي خاضها حزب الله ضد العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان، وبين تلك التي يواظب من خلالها على سفك دم الأبرياء في سوريا؛ جملة مفارقات، فإن كانت الجغرافيا في الأولى لمصلحة الحزب، فإن التاريخ في الثانية ضده، خصوصًا ما يكتبه الحزب عن نفسه بنفسه ولنفسه.

لم يعرف اللبنانيون عن مواجهة حزب الله للعدو الإسرائيلي طابعًا طائفيًا، وإن كان الحزب "شيعيًا" من الأساس، وإيراني الأفق منذ النشأة. لذا، وفي ضوء العداء لإسرائيل بسجلّها الحافل من الإجرام والعنصرية، فإن المفهوم الذي طبع "مقاومة" العدو أخذ بعدًا وطنيًا، ما جعل من كل من سقط من عناصر الحزب في الحروب التي خيضت شهداء في أعين كل اللبنانيين.

اقرأ/ي أيضًا: 25 آيار.. عيد لبناني آخر لمقاومة ضلت طريقها

أما سوريا، ونظرًا للخطر الاستراتيجي الذي يشكّله انهيار نظام بشار الأسد على حزب الله ورعاته، ووسط الانقسام اللبناني الذي جعل من التأييد حالة شعبية لبنانية متعاطفة ومتضامنة مع الثورة السورية السلمية، التي هي في نظرهم تثأر من ظلم أسد واحد على شعبين؛ كان لا بد إذن للحزب من اللعب على وتر المقامات التي تخصّ حاضنته دون غيرها، فأحد سواها لن يسمع ويتفاعل مع خطابه التجييشي لنصرة الأسد. من هنا جاء الواجب الجهادي ليشكّل التوصيف الدقيق لواقع رد الفعل، على فعل تعمد الحزب توصيفه خطأً.

مُسمّى من يسقط من عناصر الحزب على الأراضي السورية يتراوح على مقياس الانقسام اللبناني، ما بين "قتلى" و"شهداء". وإن كانت غالبية اللبنانيين تؤكد أن مواجهة الحزب للشعب السوري تجعل من عناصره قتلةً أولًا ثم قتلى ثانيًا، فإن البيئة التي ترتضي إرسال أبنائها إلى مواجهة شعب ثائر تحوم من فوقه الطائرات، وتنهمر على بيوته البراميل والصواريخ، ويُهاجم نساءه وشيوخه وأطفاله بغاز السارين؛ تمنحهم لقب شهداء، وإن كانت هذه البيئة نفسها تئن بين الحين والآخر فيُسارع الحزب من خلال رجال دين شيعة إلى تدارك الأمر بإغداق الفتاوى على أهالي القتلى لتخفيف لوعة مصابهم.

الحزن بالقلب    

لطالما عُرفت المناطق الشيعية ـالجنوبية تحديدًاـ من خلال صور شهدائها. عند المداخل وفي الساحات وعلى البيوت. صورٌ جعلها التقادم بمضي العقود على رفعها ذكرى لتضحيات الشباب الجنوبي على الحدود وداخل بلاده. يمرّ من أمامها القريب والغريب فيستشعر ما مرّت به القرى الجنوبية من مأساة، وما أنجبته أرضها من أحرار.

ظلّت صور شباب الحزب، في المعارك ضد العدو الإسرائيلي، بلباسهم العسكري ولحاهم التي تغطي معظم وجوههم؛ علامة فارقة لكل بلدة، فالصور تخلّد الماضي، والفخر شيمة من يقدّم الدم لتحرير الوطن، والصدأ الذي ينال من الصور ورافعاتها الحديدية لم يجعل منها في أي وقت من الأوقات قابلة للإزالة أو التبديل. فقيمتها بمرور الوقت تتضاعف، ووجودها استذكار لحزن المصاب و"فرح الشهادة" في آن معًا.

أنكر حزب الله في معظم الأحيان الاعتراف بخسائره، وأوحى لقاعدته الشعبية بوجوب كتمان الحزن، لإخفاء واقع ما يخسره من الحرب في سوريا

أمّا في ما يتعلّق بصور قتلى الحزب في المعارك السورية، فيختلف الأمر، إذ قليلة هي الصور التي تنعي من يسقط على أراضي الغير، فضلًا عن أنّ الحزب كان قد اتبع منذ بدء مشاركته في الحرب، سياسة تقليل الخسائر، لضرورات استراتيجية تمكنه من الظهور أمام بيئته وأمام عدوه في نفس الوقت، في موقف الأقوى.

اقرأ/ي أيضًا: مضايا.. مازار حزب الله

وقد أوحى الحزب بطريقة أو بأخرى لقاعدته الشعبية بوجوب كتمان الحزن والتعبير عنه في الحدود الدنيا، بل إنه أعرض في معظم الأحيان عن الاعتراف بخسائره، ليتناقل شهود عيان مرور نعوش محمّلة من الجانب السوري في رحلة أخيرة إلى البقاع أو الجنوب أو الضاحية الجنوبية، وليُفشي الرصاص المنهمر أثناء تشييع قتيل هنا أو هناك في أحد الأحياء البيروتية، خبر مقتل أحد العناصر. من هنا بانت قليلة المرّات التي أعلن فيها الحزب عن قتلاه، لأنه يصرّح عنهم متى دعت حاجته إلى ذلك.

"فيسبوك" على من أنكر!

يكشف فيسبوك ما قد يُخفى، والتثبّت من أي أسماء تتناقل على أنها لقتلى حزب الله، بات مع الوقت أسهل عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، بخاصة فيسبوك، فأصدقاء القتلى وأقاربهم يُؤسسون الصفحات لرثائهم وينشرون التدوينات للوقوف على ذكراهم، وإذا خلى التأبين من هكذا مبادرة، فإن صفحات البلدات الجنوبية أو البقاعية تنعي أبناءها الذين قضوا بدورهم "في الواجب الجهادي"، أو هكذا ينعون.

يتساءل كثيرون في هذا الصدد عن تعريف الشهادة إن كان واحدًا فعلًا في الحالتين لدى حزب الله نفسه. حتى أن الشارع المناوئ للحزب يسأل: هل هناك "شهادة بسمنة وشهادة بزيت"، ليُعلي الحزب من شأن شهدائه في مواجهة العدو الإسرائيلي فيسمّيهم بالاسم، فيما يتنكّر لمن أرسلهم إلى موعد مُسبق مع الموت على أرض ليست لهم، وفي قضية لا تخصهم؟!

أرقام بالحد الأدنى

كشف تقرير نشرته مجلة نيوزويك الأمريكية مؤخرًا، أن عدد قتلى حزب الله في سوريا منذ مشاركته في الحرب، وتحديدًا بين 30 سبتمبر/أيلول 2012 و10 نيسان/أبريل 2017، يُقدّر بنحو 1048 قتيلًا، لافتةً إلى وجوب التعامل مع هذا العدد كحد أدنى؛ لأن "تقديم الحزب معلومات كاملة عن عدد القتلى من شأنه أن يكشف مزيدًا من المعلومات عن قواته لخصومه".

كشف تقرير لمجلة نيوزويك أن الحد الأدنى لقتلى حزب الله في سوريا يتجاوز الألف قتيل، وسط تكتم شديد من قبل قيادة الحزب وإعلامه

ورأت نيوزويك أن "حزب الله يتعامل بسرية مع الأماكن التي قتل فيها هؤلاء المقاتلين في سوريا"، الأمر الذي تكشفه عادةً المعارضة السورية بعد أن كانت غلفته عبارة "استشهد أثناء قيامه بالواجب الجهادي" بضبابية متعمّدة.

اقرأ/ي أيضًا: إفلاس حزب الله بسبب الحرب السورية.. "السيد" يخسر زعامته ونقوده

وتزامن صدور هذه الدراسة مؤخرًا، مع لائحة تداولها ناشطون عبر مواقع الإنترنت، تحمل أسماء 16 قتيلًا للحزب سقطوا جميعًا، وفقًا لها، قبل أيام في معرك "درعا المنشية". وتكتّم الحزب هذه المرة أيضًا عن الخبر، ليعلن لاحقًا تشييع عددٍ من قتلاه دون إدلاء بأي معلومات عنه، ليُختصر الأمر كما جرت العادة على: "شيَّع حزب الله وجمهور المقاومة في البقاع، الشهيد 'فلان' الذي استشهد أثناء قيامه بالواجب الجهادي".

 

اقرأ/ي أيضًا:

كيف يمول حزب الله عملياته عبر تجارة المخدرات؟

هكذا أنقذت السعودية حسن نصرالله