يتساءل كثيرون عن خلفيات قرارات الرئيس الأمريكي الأخيرة برفع الرسوم الجمركية على الواردات، خصوصًا تلك المتعلقة بالصين والاتحاد الأوروبي. ورغم إعلانه تعليق هذه الرسوم لمدة 90 يومًا، فإن الضرر الذي تسببت به قد وقع بالفعل، ومن غير المرجح أن يُمحى بسهولة.
الحلفاء، وعلى رأسهم فرنسا وألمانيا، لن يقبلوا أن يعاملهم ترامب بنفس الطريقة التي يعاملهم بها بوتين. فقد سبق أن وقفوا في وجه الرئيس الروسي رغم حاجتهم الماسّة إلى الغاز، ويمكن القول إنهم نجحوا، إلى حد بعيد، في تحدي "القيصر الجديد".
لذلك، لم تكن تعريفات ترامب مجرد ركلة في الهواء. فتعليق الرسوم لا يعني التخلي عنها نهائيًا، ومن الواضح أنه سيعود إليها عاجلًا أم آجلًا، إذ إنه ببساطة مسكون بهاجس تأبيد الهيمنة الاقتصادية الأمريكية.
وفي الوقت الذي تركز فيه التحليلات على الأبعاد النفسية والشخصية لترامب، يغفل كثيرون أن قراراته هذه ليست شاذة عن السياق الأمريكي العام، بل تأتي منسجمة مع تصور متجذر في العقل السياسي الأمريكي: أن الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة التي يجب أن تبقى في موقع القيادة الاقتصادية، ولو على حساب الاستقرار العالمي.
لا يخوض ترامب معركة مضمونة. بل يمكن القول إنه يتبع سياسة تجريبية، أشبه ما تكون بمحاولة يائسة لإعادة إحياء نموذج الهيمنة الأمريكية في زمن لم يعد يشبه القرن العشرين
لكن في العمق، لا يخوض ترامب معركة مضمونة. بل يمكن القول إنه يتبع سياسة تجريبية، أشبه ما تكون بمحاولة يائسة لإعادة إحياء نموذج الهيمنة الأمريكية في زمن لم يعد يشبه القرن العشرين. إنه يتحرك وسط أزمة عميقة يعاني منها الداخل الأمريكي: اختلالات اقتصادية، وتفاوتات اجتماعية، وديون ضخمة تكاد تلتهم قدرة الدولة على المناورة. ومن هذا المنطلق، فإن تصعيده الاقتصادي ليس تعبيرًا عن قوة فائضة، بل انعكاس لهشاشة بنيوية يحاول تغطيتها عبر سياسات صادمة، لعلها تُنتج توازنًا جديدًا، أو على الأقل تُربك خصومه وتمنحه وقتًا إضافيًا.
ورغم أسلوب ترامب المثير للجدل، فإن سياساته ليست خارجة عن السياق التاريخي. فالواقع أن هذه "الصدمة" الاقتصادية التي يطلقها ليست الأولى من نوعها، وليست بالضرورة محكومة بالفشل كما يظن البعض. سبق أن قام الرئيس نيكسون، في سبعينيات القرن الماضي، بإجراءات أكثر تدميرًا – خصوصًا لأوروبا – بهدف ترسيخ الهيمنة الأمريكية.
كان التحدي أمام إدارة نيكسون هو كيف تحافظ أمريكا على تفوقها العالمي، رغم تحولها إلى دولة تعاني من عجز تجاري ومالي؟ وكان الرد صادمًا: بدلاً من التقشف، قرروا تعميق العجز التجاري، وجعل بقية العالم يدفع الثمن. اعتمدت هذه الاستراتيجية على استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية وإعادة تدويرها داخل النظام الأمريكي، وهو ما تطلّب تحرير الأسواق المالية الأمريكية من كل القيود السابقة، وإطلاق العنان لوول ستريت.
تحت مظلة النيوليبرالية، أصبحت البنوك والمضاربون يتعاملون بمليارات الدولارات الأجنبية، في نظام غير منظم قاد إلى التوسع المالي والعولمة كما نعرفها اليوم. وهكذا، تحولت أمريكا من منتج للثروة إلى مدير لها، محققة أرباحًا ضخمة من أسواق المال، لكنها أيضًا خلقت فقاعات اقتصادية قابلة للانفجار كما حدث في أزمة 2008.
اليوم، الولايات المتحدة مدينة بأكثر من 36 تريليون دولار. هذا الرقم كان كفيلاً بانهيار أي دولة، لولا أن الدولار ما يزال العملة الأكثر موثوقية عالميًا، والمعيار الذي تُقاس به احتياطات الدول. غير أن هذه الثقة هشة في نظر ترامب، ويخشى أن يستيقظ العالم يومًا ويطالب أمريكا بسداد ديونها بموارد حقيقية، لا بورق الدولار. ربما لا يبدو هذا السيناريو وشيكًا، لكنه يبقى محتملًا.
أما الهبوط الحاد في الأسواق المالية، وما يتبعه من صعود مفاجئ، فهو في الواقع لا يؤثر على حياتنا اليومية بالقدر الذي يُشاع. المتأثر الأكبر هم المضاربون، الذين استخدموا الأسهم كضمانات للاقتراض، ما يجعلهم عرضة لخسائر ضخمة عند أي اضطراب.
الأسئلة الكبرى التي لا تزال مطروحة: هل من المنطقي أن تقفز أسهم شركات يملكها إيلون ماسك فور فوز ترامب، لترتفع ثروته بمقدار 20 مليار دولار في يوم واحد؟ ومن أين جاءت هذه الأموال؟ وكيف يمكن لشركة مثل "إنفيديا" أن ترتفع قيمتها السوقية من 460 مليار دولار إلى أكثر من 3 تريليونات خلال أقل من عامين؟
لسنا بحاجة إلى خبراء اقتصاديين لنفهم أن النظام مشوّه، وأن ما يُروّج له من انهيارات أو انتعاشات ليس دائمًا انعكاسًا حقيقيًا للاقتصاد، بل جزء من لعبة أوسع، يتباكى عليها من استفادوا منها طويلًا، حين يبدأ ميزانها في التغيّر.
المستقبل القريب يحمل معه تحولات كبرى على الساحة العالمية. فرغم اللهجة المتشددة التي تعتمدها أوروبا، إلا أنها لا تملك فعليًا القدرة على ربح حرب تجارية مع الولايات المتحدة، التي تستوعب ما يقارب 600 مليار دولار من صادراتها، بينما لا تستورد منها سوى ما قيمته 300 مليار دولار. ومع ذلك، لا تقف أوروبا مكتوفة الأيدي، بل تحاول مواجهة التصعيد الأمريكي قدر الإمكان.
أما الصين، التي فضّلت تاريخيًا الحوار وتدوير الزوايا بدلًا من المواجهة المباشرة، فقد غيّرت نبرتها هذه المرة وردّت على الرسوم الجمركية الأمريكية برسوم مضادة. تدرك بكين أن المعركة مختلفة هذه المرة، ولكنها تخوضها وهي مثقلة بمشاكل داخلية، أبرزها ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، وركود القطاع العقاري الذي يعاني منذ عام 2020.
وفي ظل هذا المشهد، يبدو أن العودة إلى نموذج القرن التاسع عشر الذي يحلم به ترامب ليست ممكنة، لكن السؤال الحقيقي يبقى: إلى أين يتجه العالم الآن؟
ربما نحن نشهد نهاية نظام عالمي قديم دون أن يكون الجديد قد وُلد بعد. القوى الصاعدة مثل الصين، والهند، وتحالف البريكس، ستسرّع من عملية بناء نماذج تنموية بديلة تقلّل من الاعتماد على الدولار. في المقابل، سوف تسعى أوروبا لإعادة تعريف نفسها اقتصاديًا وسياسيًا بعيدًا عن ظل الهيمنة الأمريكية. هذه التحولات قد لا تكون دراماتيكية، لكنها تتراكم بهدوء، ومعها يصبح العالم متعدد الأقطاب خيارًا أكثر واقعية من أي وقت مضى.
العالم الجديد الذي يتشكّل لن يُرسم فقط باتجاهات القوى الكبرى وتحالفاتها، بل سيعتمد أيضًا على تغيّر في وعي الشعوب وخيارات الأفراد. إذا كانت المقاطعة تُستخدم أحيانًا كأداة ضغط مدني للتأثير في السياسات، فإن التوجيه الإيجابي لقوة الناس الشرائية أداة بناء أقوى بحيث يصير جواب السؤال حول "ماذا لا نشتري؟" إلى "ماذا نشتري؟" جزء من الجواب عن أي عالم نريد أن نعيش فيه.