الهيبة الوهمية: "غوغول" والنقد الساخر لسُلطة الصورة
20 يونيو 2025
في زاويةٍ ما من بيروقراطية متآكلة، يجلس مسؤولٌ صغير تحيط به هالةٌ من الصمت المتوتر. موظفون يدخلون بخجل، كلمات تُوزن بميزان الحساسية، ونظراتٌ تراقب كل تفصيل في حضرته وكأنها أمام أيقونة مقدسة. رجلٌ في الخمسين من عمره، تعلو وجهه ملامح الجدية والهيبة… لكنه في الحقيقة مجرّد تُرس صغير في آلة معطوبة.
في مجتمعاتٍ كثيرة، أصبحت “الأهمية” عملة رمزية. لا تستمد قيمتها من المعرفة أو الإنجاز، بل من الكرسي. الكرسي وحده يكفي ليمنح صاحبه شعورًا بأنه فوق النقد، فوق الخطأ، وربما فوق البشر أنفسهم.
هذه الهالة الزائفة، هذا الهوس بالمقام، ليس جديدًا – لقد سخر منه نيكولاي غوغول قبل قرنين، في روسيا القيصرية
هذه الهالة الزائفة، هذا الهوس بالمقام، ليس جديدًا – لقد سخر منه نيكولاي غوغول قبل قرنين، في روسيا القيصرية، عندما رسم شخصيات تبدو مأساوية بقدر ما هي مضحكة. شخصيات تتعامل مع المناصب كما لو كانت تجليات إلهية، بينما هي في الحقيقة لا تملك من القوة سوى الوهم.
الشخصيات الرسمية في أعمال غوغول: مرآة نفسية للسلطة المتغطرسة
تعد شخصيات غوغول الرسمية، سواء في المعطف أو الأنف، تجسيدًا مُرَكَّبًا للهيكل الإداري الذي يعاني من الفساد واللامبالاة. فالمسؤولون في أعماله ليسوا مجرد ممثلين للسلطة، بل هم تجسيد للأمراض النفسية التي يعاني منها النظام نفسه. يمارسون سلطتهم ليس من أجل المصلحة العامة، بل لأنهم يرون في وظائفهم مصدرًا للكرامة الاجتماعية، حتى وإن كانت تلك الكرامة مبنية على الرمال.
في المعطف نرى المستشارين الذين يحكمون على أكاكي أكاكيفيتش بكل شيء إلا بما هو إنساني
في المعطف نرى المستشارين الذين يحكمون على أكاكي أكاكيفيتش بكل شيء إلا بما هو إنساني. شخصيات مغرمة جدًّا بألقابها ومناصبها التي تمنحهم إحساسًا زائفًا بالقداسة. لكن وراء هذا البريق، يخشى كل واحد منهم أن يُكتشف ضعفه أو تهتز مكانته. هؤلاء المستشارون يهربون من أي نوع من المسؤولية الحقيقية، ويعيشون في عالم مليء بالهواجس التي تمنحهم السلطة على الآخرين.
وكما يحدث في كثير من الأنظمة البيروقراطية الفاشلة، نجد المسؤولين يدافعون عن مناصبهم كأنها جزء من هويتهم الشخصية
وكما يحدث في كثير من الأنظمة البيروقراطية الفاشلة، نجد المسؤولين يدافعون عن مناصبهم كأنها جزء من هويتهم الشخصية. هناك خلط مستمر بين الدولة والشخص، بحيث يصبح النقد أو الاعتراض على المسؤول كأنك تهاجم النظام بأسره. مثلهم مثل شخصيات غوغول، هؤلاء لا يتعاملون مع القضايا الحقيقية، بل يفرغون طاقتهم في الحفاظ على الصورة الزائفة التي خلقوها لأنفسهم.
أما في الأنف، فتصل السخرية أقصى درجات العبثية. يُصبح الأنف الذي هرب من وجه صاحبه، وترقى ليصبح مسؤولًا، تجسيدًا مثاليًا للأوهام التي يعشش فيها بعض ممثلي السلطة. وعندما يحاول صاحبه استرجاعه، يُواجَه بتعقيدات بيروقراطية مضحكة – لكنها في عمقها كابوسية. يسخر غوغول من جهاز الدولة الذي تحوّل إلى صنم مقدّس: لا يمكن مساءلة أحد، ولا يمكن نقد أحد، لأن أي انتقاد يبدو وكأنه مساسٌ بالهيكل كله، وكأن الدولة قد اختُزلت في شخص واحد أو وظيفة واحدة.
السلطة الفاسدة وتفكيك الروح الفردية
يسلط غوغول، بأسلوبه الساخر، الضوء على خطورة التآكل الداخلي الذي يعصف بأنظمة السلطة، وفي المعطف يظهر ذلك جليًا. أكاكي أكاكيفيتش ليس مجرد موظف صغير؛ إنه رمز لتدمير الذات أمام هيمنة البيروقراطية. ورغم كونه شخصية محط سخرية، يكشف غوغول عن مأساة خفية تختبئ خلف معطفه البالي. أكاكي هو ضحية لنظام يُقزّم إنسانيته ويحوّل أبسط طموحاته إلى حلم مستحيل.
فالسلطة المنغلقة على ذاتها تُقيم جدارًا نفسيًا وواقعيًا بينها وبين المجتمع
في بيئات مماثلة، لا يختلف الأمر كثيرًا. فالسلطة المنغلقة على ذاتها تُقيم جدارًا نفسيًا وواقعيًا بينها وبين المجتمع. الهيمنة تظهر في إفقاد الأفراد الإحساس بالقيمة، ويُعامل المواطن كمجرد رقم، أو مُتلقٍ لوعد زائف. في مثل هذه الأنظمة، لا مجال للعدالة أو التطوير الشخصي، لأن الكفاءة لا تُكافأ، بل يُكافأ الولاء للصورة.
التآكل الداخلي للأنظمة: هشاشة القوة خلف قناع الصرامة
يفتح غوغول، من خلال قصة الأنف، نافذةً على التصدعات النفسية والإدارية التي تنخر في جسد السلطة من الداخل. البطل، بعد أن فقد أنفه، لا يواجه مأساة شخصية عبثية فحسب، بل يدخل في دوامة من الإنكار، يلاحق وهمًا لا يعترف به أحد. في سعيه لاسترجاع ما فُقد، يصطدم بجدار من المراوغات الإدارية والصمت الرسمي، وكأن النظام يرفض الاعتراف بما هو واضح للعيان.
لا أحد يريد فتح الأبواب المغلقة على الواقع، بل يختار الهروب إلى عوالم خطابية مزيفة، يُعاد فيها إنتاج الوهم كأنه إنجاز
هذا المشهد العبثي لا يخص حقبة أو دولة بعينها، بل يُعبّر عن آلية مألوفة في أنظمة تفرغ السلطة من معناها الأخلاقي، وتحوّلها إلى تمثال هشّ من الكبرياء. لا أحد يريد فتح الأبواب المغلقة على الواقع، بل يختار الهروب إلى عوالم خطابية مزيفة، يُعاد فيها إنتاج الوهم كأنه إنجاز. في هذا السياق، تتحول المناصب إلى قلاع نفسية، يختبئ خلفها المسؤول من أي مساءلة.
الأنظمة الفاسدة لا تسقط فجأة، بل تتآكل ببطء من الداخل، عندما يتحول المنصب من أداة خدمة إلى درع حماية للذات. حين تُعامَل المساءلة كخيانة، والنقد كعداء، تنهار الثقة وتترسخ الأوهام.
السخرية السوداء: تعرية السلطة في ثوب القداسة
السخرية هي المفتاح الذي يستخدمه غوغول لفضح العيوب التي تُخفى خلف أقنعة الهيبة. في المعطف والأنف، تتعلق الشخصيات بمناصبها كما لو كانت هذه المناصب تجسيدًا لذواتها. تُصبح السلطة وسيلة لتعزيز الأنا لا لخدمة المجتمع. وهذا ما يجعل من شخصياته مرايا صادقة لعوالم يغلب عليها التمييز والفساد، حيث لا تُمنح الفرصة لتطوير الإنسان، بل لتكريس الأوهام.
إن شخصيات غوغول قد تكون خيالية في ظاهرها، لكنها تتعامل مع الواقع بأسلوب يعكس التوترات البنيوية في مجتمعات كثيرة. إنها دعوة لأن ننظر إلى السلطة لا بوصفها امتيازًا، بل مسؤولية، ولأن ننتبه إلى أن الكرامة الحقيقية لا تُصنَع من الألقاب، بل من الأثر الذي يتركه الإنسان في محيطه، مهما كان معطفه باليًا.