18-يونيو-2018

محمد بن سلمان في كاريكاتير لـ عماد حجاج

من السهل على المهتمّين بالشأن السعوديّ اليوم، ملاحظة التناقضات التي تعيشها مملكة محمد بن سلمان، والمتمثّلة بطبيعة الحال في انتهاكاته الحقوقية والإنسانية المستمرّة ضدّ معارضيه من جهة، ونشاطات ما يُعرف بـ"الهيئة العامّة للترفيه" غير المسبوقة في المملكة من جهةٍ أخرى. وفي الوقت الذي تقوّض فيه هذه الانتهاكات صورة الإصلاحي المزيّفة التي يسعى الأمير الهائج إلى ترويجها لنفسه عربيًا وغربيًا، تستمرّ هيئة الترفيه، على الأقل في الشارع السعوديّ، وبنشاطاتها المستجدّة وغير المسبوقة كما ذكرنا، في ترميم هذه الصورة والترويج لها، وشغل الرأي العام أيضًا، باعتبارها، أي الهيئة، جزءًا أساسيًا في شبكة ضخمة أسَّسها ابن سلمان لهذا الهدف.

نهضت "الهيئة العامة للترفيه" على أنقاض "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" لترويج صورة ابن سلمان

ويبدو واضحًا اليوم أنّ هذه الهيئة التي أُسِّست في إطار ما يُعرف برؤية 2030 الاقتصادية والاجتماعية التي أطلقها ولي العهد الذي بات حاكمًا فعليًا ووحيدًا للمملكة، أُسِّست لغرضٍ غير الذي تدّعيه. فعدا عن أنّها تروّج لصورته بوصفه إصلاحيًا وقائدًا لنهضة المملكة الجديدة عند صنّاع القرار في الغرب، لعبت الهيئة أدوارًا عدّة خفية في سبيل تمكين نفوذ مؤسِّسها. ويمكن القول هنا أنّها نهضت على أنقاض "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" التي تقف بطبيعة الحال على النقيض منها تمامًا. أو ربّما جاءت بديلًا لها لنشر أيديولوجيا محمد بن سلمان الجديدة، والقائمة في أساسها على إرضاء حلفائه في الغرب، والأمريكيين منهم على وجه الخصوص.

اقرأ/ي أيضًا: محمد بن سلمان.. صعود سريع لأمير طائش يهدد البلاد والمنطقة!

لكنّ استبدال الهيئة الدينية المتشدّدة بأخرى ترفيهية جديدة تمام الجدّة، لم يأت بهدف تعزيز الانفتاح والاعتدال اللذين روّج لهما ابن سلمان وأدواته الإعلامية العربية والغربية. ويمكننا القول هنا إنّ تحجيم دور الهيئة كشرطة دينية والحدّ من صلاحياتها، لم يحدث لأجل تمكين هذا الانفتاح والتسامح المزعومين، إنّما من باب تعزيز نفوذ الأمير المُطبّع وضمان انفراده في الحكم والقضاء على أي معارضة ممكنة له. فمن المعروف أنّ التيار الديني في المملكة العربية السعودية يمثّل قوّة سياسية منظمّة وفاعلة خارج إطار العائلة المالكة وسلطتها، ما يمكّنه من أن يكون شريكًا أو تهديدًا مباشرًا وصريحًا لنفوذ الأمير الطائش.

وتجنبًا لأية سيناريوهات قد تصدر عن التيار نفسه ضدّ مشروعه وتطلعاته ونفوذه، جاءت أوامر ابن سلمان واضحةً باعتقال عددٍ من رموز التيار. وجاءت حملة الاعتقالات متزامنةً مع بعض نشاطات هيئة الترفيه، بالإضافة إلى حملات التشهير الإعلامية التي قادها الإعلام السعودي وتلقّفتها أدواته من صحف صفراء وقنوات إعلامية مملوكة ماليًا ضدّ المعتقلين، روّجت لفكرة أنّ هذه الاعتقالات جزء من مشروع محمد بن سلمان لمحاربة التطرّف والتشدّد، وتمكين إصلاحاته الجديدة المتعلّقة بتخفيف القيود الاجتماعية بين الذكور والإناث، من خلال إقامة الحفلات الغنائية والموسيقية والأنشطة الثقافية التي كانت محظورة لسنواتٍ طويلة في المملكة، والتي هي بطبيعة الحال من مهام الهيئة الجديدة، أي "الهيئة العامّة للترفيه".

اللافت هنا أنّ حملات الاعتقال هذه لم تقتصر على رموز التيار الديني المُحافظ فقط، بل شملت عددًا الدعاة المعتدلين والمفكّرين والنشطاء، لتطفو على السطح حقيقة أن المعتقلين في سجون ابن سلمان إمّا معتقلو رأي، أو معارضون لسياساته الداخلية والخارجية، غير المتعلّقة طبعًا بمشروع الانفتاح والاعتدال والوسطية المزيّفة. وبذلك، ومن خلال شَغله وشبكته الإعلامية للرأي العام السعودي-العربي والغربي بتقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف وتحجيمها، وتأسيس هيئة الترفيه ونشاطاتها، ومحاربة التشدّد زيفًا، تمكّن ابن سلمان من إسكات أصوات معارضيه، وبثّ الرعب في قلوب من تبقّى منهم خارج أسوار معتقلاته.

في العودة إلى الهيئة العامّة للترفيه، نجد أنّ نشاطاتها تروّج إعلاميًا بشكلٍ ضخم، وتحصد زخمًا إخباريًا مبالغًا فيه، وهذا يعود بطبيعة الحال إلى امتلاك ابن سلمان برفقة حليفه الأقرب ابن زايد شبكة إعلامية تخدم أجندتهما وتروّج لها. هذا أوّلًا، ثانيًا، من الطبيعي أن يحقِّق نشاطًا ثقافيًا كالحفلات الغنائية وافتتاح صالات السينما وغيرها في بيئة متشدّدة ومحافظة كالبيئة السعودية انتشارًا إعلاميًا كبيرًا، انطلاقًا من كونها، أي النشاطات هذه، أمورًا حديثة على المجتمع السعوديّ. وتاليًا، يُراهن ابن سلمان على الضجّة الإعلامية التي تحدثها نشاطات الهيئة في التغطية على انتهاكاته الحقوقية والإنسانية داخل المملكة، من حملات اعتقال وتشهير وتصفية لخصومه من السلفيين والمدنيين وغيرهم، حتّى وإن اقتصر الأمر على الداخل السعوديّ فقط.

تحاول "الهيئة العامة للترفيه" شغل الشباب والمجتمع السعوديّ بأكمله بنشاطاتها بقصد إبقائهم بعيدًا عن الحياة السياسية

لا تروّج الهيئة فقط للانفتاح المزيّف الذي يفصل الرجال عن النساء في الحفلات الغنائية، بل تحاول أيضًا شغل الشباب والمجتمع السعوديّ بأكمله بنشاطاتها بقصد إبقائهم بعيدًا عن الحياة السياسية، وصرفهم عن ممارسات ولي العهد الطائش، والتحوّلات الجذرية التي يؤسّس لها في المملكة لجهة تفرّده في السلطة. وهنا نستعيد حادثة اعتقال بعض الأمراء ورجال الأعمال والدولة في الريتز كارلتون، والتي أحدثت ضجّة إعلامية ضخمة عربيًا وعالميًا، بينما كان الشباب السعوديّ يتمايلون على صوت الشاب خالد والمغني الأمريكي نيللي في حفلة نظّمتها الهيئة في مدينة جدّة.

اقرأ/ي أيضًا: مشروع "نيوم".. ذريعة ابن سلمان لإعلان تطبيع العلاقات مع إسرائيل

ما يلفت الانتباه أنّ بعض أدعياء الليبرالية في السعودية المتبنين أيديولوجيا لابن سلمان، يروّجون للهيئة ونشاطاتها لا باعتبارها نقيضًا لهيئة الأمر المعروف وحسب، أو جزءًا من الانفتاح المزعوم، بل في كونها جزءًا من الليبرالية السعودية الجديدة التي تسعى إلى تحرير المجتمع السعودي، وتمكين الفرد من ممارسة حريّاته على غرار الدول الغربية. ولكنّ هذا فقط لجهة الحريات الاجتماعية التي لا تزال حتّى الآن مُقيّدة نوعًا ما، أي أنّ الأمر لا ينطبق على الحريّات السياسية وحرية الرأي والتعبير. وأنّ استلهام النموذج الغربيّ في الإصلاحات المزعومة يقتصر فقط على إقامة الحفلات الغنائية وافتتاح صالات السينما والأوبرا وغيرها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

يخت الخراب.. القمة السرية للعبث بالشرق الأوسط

ابن سلمان عدو خططه.. وحش الاستبداد يفترس دعاية الإصلاح