31-يوليو-2020

إيتالو كالفينو في باريس سنة 1970 (لويس مونييه/Getty)

ما معنى الكتابة بالنسبة إلى الروائي الإيطاليّ إيتالو كالفينو (1923-1985)؟ ما الغاية منها؟ القول بأنّ كلّ تلك الأشياء التي يعرفها الإنسان، هو في حقيقة الأمر لا يعرفها جيّدًا، أو لا يعرفها بالشكل الذي يُمكِّنهُ من الكتابة عنها. لذا، وكما يُلاحظ القارئ في غالبية أعماله، يبدو كالفينو معنيًّا بالفصل بين ما يعرفهُ الإنسان من جهة، وما يألفهُ من جهةٍ أخرى.

يبدو كالفينو معنيًّا بالفصل بين ما يعرفهُ الإنسان من جهة، وما يألفهُ من جهةٍ أخرى

ومن خلال هذه العملية، تصير الكتابة وسيلة لترك العالم وشأنه، والانصراف إلى تفكيك الأشياء بعد إعادة اكتشافها انطلاقًا من زوايا جديدة. وهي في الأصل عملية معقّدة قائمة على تأمّلات حسيّة مُدعَّمة بإمدادات متواصلة من الخيال، وانطلاقًا متها، شيَّد الروائي الإيطاليّ مجموعته القصصية الصادرة حديثًا عن (دار المدى) تحت عنوان "الهزل في قصص الأزل: جميع الهزليات الكونية"، ترجمة نبيل رضا المهايني.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| هيفاء زنكنة: لا تزال المرأة في الصف الثاني في عالم الكتابة 

المحطّة الكتابية الأولى لصاحب "مدن غير مرئية" تمثّلت في (العجب)، ويُمكن القول إنّ هذا العنصر هو الذي بُنيت عليه مجموعته القصصية التي بدأها، كما هي عادته في الكتابة، انطلاقًا من صورة واحدة صغيرة أخذت تكبر في مخيّلته شيئًا فشيئًا لتشكّل في نهاية المطاف قصصًا مُنفصلة ومتّصلة ببعضها البعض في آنً معًا.

هذه الطريقة في الكتابة التي اعتمدها إيتالو كالفينو في غالبية أعماله متّصلة بشكلٍ أو بآخر بما أشار إليه غالبية النقّاد ممن تابعوا أعماله، وبما تحدّث عنه هو أيضًا في أكثر من مناسبة: مطاردة قطعة الحقيقة القابعة في قاع كلّ كذبة، وتوظيفها فيما بعد كنقطة انطلاق للبحث عن حقيقة أخرى تكون نواةً صلبة لأجواءه الغريبة والمركّبة على تداخل الفانتازيا بالواقع، والقائمة على حدود التأمّل بما هو طريقة للنظر إلى الحياة والتعامل معها أيضًا.

إيتالو كالفيني في روما سنة 1984 (جياني جيانستي/Getty)

التأمّل عينه مُطالب به القارئ أثناء قراءته لـ "الهزل في قصص الأزل: جميع الهزليّات الكونيّة" باعتباره أيضًا وسيلة لقراءة المجموعة التي ضمّت بين "هزليّاتها" قصّة عن  ديناصورٍ نجى من حقبة الهلاك العظيم الذي أودى بحياة أبناء جلدته، من خلال رحلة طويلة وشاقّة عبر خلالها مقابر مليئة بالجثّث المهترئة، وواجه أنواعًا مختلفة من المصائب والأوبئة والمجاعات، قبل أن يقرّر بعد أن اشتدّ البرد في المكان الذي لجأ إليه في أعالي الجبال العودة إلى الأسفل، ليكتشف أنّ العالم برمّته قد تغيّر، وأنّ هناك كائنات حيّة جديدة قد ظهرت وأطلقت على نفسها صفة "الجُدد". 

يعيش الناجي الأخير بين هذه الكائنات الجديدة باسمه الجديد: القبيح؛ ودون أن يعرفوا أنّه في الأصل ديناصور نجى من مصير رفاقه الذين يشكّلون مادّة خصبة ومغرية لحكاياتهم المُتخيّلة والمروّعة التي توارثوها جيلًا بعد جيل، وهي حكايات شكّلت لديه أزمة نفسية حادّة، واضطرابات فرضت عليه نمطًا مخصّصًا من التعامل مع الآخرين، لا سيما هؤلاء الجُدد الذين لن يستطيعوا أن يحلّوا محلّ قومه مهما فعل وفعلوا. يقول في وصف حكايته هذه: "لم تكن هذه إلّا فصولًا عابرة في حياتي، التي كانت حياة هادئة لا تقع فيها أحداث مثيرة إلّا نادرًا. وقد أغرقت في صمت مطبق كلّ الحقائق المتعلّقة بي وبعهود مملكتنا. وهكذا فقد انقطع الكلام عن الديناصورات، وربّما لم يعد أحد يصدّق أنّهم وجدوا يوماً ما".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الأوبئة وتحولات النظام الدولي العالمي

6 تجارب روائية.. الهامش والتاريخ والفرد وهمومه الصغيرة