11-يناير-2016

خالد البيه/ السودان

تتراوح التنبؤات حول الأزمة السورية للعام الجديد، بين تشاؤم وتفاؤل على الصعيد السياسي، بين من يعتقد بجدية المفاوضات المزمع إجراؤها بين المعارضة والنظام، وبين مستخفٍّ بها. في الحقيقة هذا التراوح بحد ذاته قد يكون عنوان المرحلة الجديدة من الأزمة السورية وبديلًا من الغرق الطويل في أفق يائس. لكن على أرض الواقع السوري لا يظهر لنا أي انعكاس جدي لبدايات المرحلة الجديدة تلك حتى هذه اللحظة على الأقل؛ بل على النقيض، إذ غالبًا ما يكون للتفاؤل المفرط أثرٌ أكثر سلبية.

مع بدايات العام الجديد، وعلى أرض الواقع السوري، لا يظهر لنا أي انعكاس جدي لبدايات أي مرحلة جديدة

لا تزال الجموع التي تعبر بحر إيجة، بين تركيا واليونان، تتدفق على أوروبا رغم الجو الشتوي العاصف، ورغم تزايد أعداد الغرقى. حتى إن إحدى الجماعات التطوّعية التي تراقب انطلاق رحلات التهريب، بغية إرسال نداءات استغاثة في حالات الغرق، أعلنت إيقاف عملها، في محاولة لثني "المهاجرين" عن الانتحار الجماعي والمجاني في البحر الهائج، ومع هذا لا يزال الكثيرون راغبين بالوصول إلى أوروبا على وجه السرعة؛ لعلّ السبب الأبرز هو خوفهم من تحوّل الموقف الأوروبي حيال قضية اللاجئين، الذين يريدون حجز دور لهم قبل أن تفوتهم الفرصة، بحجة انتهاء النزاع في سوريا، ولا سيما مع ظهور نوع من "التفاؤل السياسي" باقتراب إيجاد حل للأزمة السورية، رافقته حزمة إجراءات اتخذتها بعض الدول الأوروبية، لإعاقة تدفق اللاجئين إليها.

أما تركيا، التي أعلنت مرارًا وفي كل مناسبة إنها "لن تغلق حدودها في وجه السوريين"، أصبح بابها الجنوبي (الشمالي سوريًّا) مغلقًا بشدة، وثمّة معلومات متداولة عن الشروع قريبًا في فرض تأشيرة دخول (فيزا) على السوريين الراغبين بدخول تركيا، الخبر الذي نفته تركيا لاحقًا؛ ما شكل مصدر قلقٍ كبيرٍ لكثير من السوريين في الداخل.

وبعد أن فقد آلاف الفارين من الخدمة العسكرية الإلزامية والطلب على الاحتياط أملهم في الهرب إلى تركيا عن طريق الحدود البرية؛ بات آلاف آخرون، ممن تنتظرهم الخدمة العسكرية -وهؤلاء قد يستطيعون عبور الحدود إلى لبنان بشكل نظامي- تحت وطأة خوف شديد من اختبار الحصار ذاته؛ لذا سارع قسم من ذوي هؤلاء إلى بيع ما يملكون وإخراج أبنائهم من البلد حتى قبل إتمام الشهادة الثانوية هذا العام!

أما السوريون المقيمون في تركيا بصورة غير شرعية، أو الذين حصلوا على بطاقة تعريف (أو كيملك) فقد باتوا يسعون بشكل متزايد للحصول على إقامة سياحية، باعتبارها أكثر قانونيةً من "الكيملك"؛ خوفًا من أن تقوم تركيا بترحيل قسم من اللاجئين إلى الداخل السوري في حال حصول وقف إطلاق نار.

أيديولوجيات بعض القوى التي تشرعن وجودها حديثًا، أشد انغلاقًا حدَّ التشوه من الأيديولوجية البعثية القومية الاشتراكية 

يقدم ما سبق مؤشرات على أن السوري الكليم يدفعه "التفاؤل السياسي" نحو الهرب بنفسه بسرعة أكبر عن الجحيم الذي يتربصه، مهما كلفه الهرب. ليس الأمر تنصلًا من دوافع أو قيم وطنية تدفع المرء إلى المساهمة في تنمية وطنه، بل يبدو الأمر هربًا من أفق سيكون أكثر ظلامًا وبؤسًا وسوادًا، وإن كان أقل دموية، ربما، عجلت بقدومه مؤتمرات السياسيين وتصريحات أمراء الحرب وقرارات التحالفات الأممية.

فرغم أن الموت قصفًا وجوعًا قد يتراجع بدرجات كبيرة، كما نأمل، إلا أن الأشكال الأخرى من الموت، والتي كانت أصلًا وراء قيام الثورة السورية، لا يبدو أنها ستعود وحسب، لكنها ستعود حاملة معها شرعيتها القوية والعنيفة بأشكال جديدة؛ تلك الشرعية التي نالتها سلطات الأمر الواقع على المستوى الدولي من خلال الداعمين الإقليميين والدوليين. فإذا كان حزب البعث قد أطبق على العباد بأيديولوجيا مشوهة، حتى إنه كان يخصخص بعض قطاعات البلد ويواصل سجن معارضيه بتهمة "عداء الاشتراكية"، فإن أيديولوجيات بعض القوى التي تشرعن وجودها حديثًا، أشد انغلاقًا حدَّ التشوه من الأيديولوجية البعثية القومية الاشتراكية المزعومة، لأنها مركبة من طبقات غير منسجمة، مختلفة ومتحالفة، على أساس أولي ذي جرعة عالية من الحق: وقف الموت اليومي للسوريين؛ لكنها خارج هذا النطاق المفترض لا يمكن أن تطمئن سوريًا واحدًا. 

هذا ما يبدو أن الحدس العام قد استشعره، فسارع السوريون إلى الهرب نحو أوروبا أو تركيا أو حتى أفريقيا، قبل أن تطبق عليهم الشرعية الجديدة القادمة وتخنقهم، أو تدفعهم إلى سلوك طريقة "البو عزيزي" الأكثر جدوى -فرديًا على الأقل- أي الانتحار الذي ارتفعت معدلاته بشكل ملحوظ في سوريا في عام 2009–2010 وبشكل تراجيدي، والانتحار يتفاقم الآن اليوم في مصر أيضًا، كحل أخير ممكن.

اقرأ/ي أيضًا:

من اليرموك إلى مضايا.. الإعدام جوعًا

اللغة في ظل الثورة