13-أكتوبر-2020

مشهد عام من تورنتو (ريك مادونيك/Getty)

جاستن ترودو هو رئيس كندا منذ 2015، لكنك قد تشعر أنه في منصبه منذ وقت طويل. ربما لأنه ليبرالي، والليبرالي لا يجب أن يقضي وقتًا طويلًا في الحكم، ويجب أن يخضع لشكل ديمقراطي في تبادل السلطة. ربما هذا ما يجعلك تستكثر سنوات ترودو القليلة في الحكم، بكثرة أحداثها، وكثرة مواقف ترودو، التي لا تخلو من التراجيديا والعاطفة والاستعراض. وعندما تكتشف أنه ورث هذه الحياة عن والده، قد يتراجع استغرابك قليلًا، ولكنك طبعًا، لن تصل إلى درجة تشبيهه بالحكام في العالم العربي، لأنك تعرف طبعًا أن هذه المشتركات، التي أثارت الأسئلة لديك، عن السياسة والحرية والسُلطة، هي مشتركات شكلية، وأن كندا على الأرجح دولة ديمقراطية، بالمعنى الذي نتخيّله أو نفترضه عن الديمقراطية.

لا يكتفي اللبنانيون بإحياء ذكريات الماضي المشتركة في الخارج، لسببٍ بسيط، وهو أنه لا يوجد ماضٍ متفق عليه بينهم جميعًا

أما إذا كنت لبنانيًا، فأنت في مشكلة، وأنت تسأل هذه الأسئلة التافهة، وتقدّم لنفسك إجابات تافهة أيضًا، عن نظامك السياسي، وعن النظام السياسي في كندا. إذا كنت تبحث عن الديمقراطية، فيوجد في لبنان ديمقراطية، أو يتفق اللبنانيون على تسمية إدارة خلافاتهم وذهابهم بين الحين والآخر لوضع بعض الأوراق في صناديق الاقتراع بالديمقراطية. تاليًا، عشرات آلاف طلبات الهجرة المقدّمة إلى كندا، ليست بالضرورة سعيًا خلف الديمقراطية. على الأقل ليس هذا السبب المعلن. فتّش عن أسباب أخرى لتضحك بها على نفسك.

اقرأ/ي أيضًا: الإنسان بين الحرية والتكليف: حرية وتقييد وفساد

الطقس في كندا لا يشبه الطقس في لبنان. ولكن لبنان أسطورة، كما يعتقد أهله. البحر إلى جانب الجبل، الثلج يبقى حتى أول الصيف، ولدينا أربعة فصول أيضًا. سرعان ما سنكتشف، أن النكات التي يطلقها اللبنانيون على أسلافهم الذين اخترعوا أسطورة "البحر والجبل"، ليست نكاتًا منطقية، وإن كانت مضحكة أحيانًا. في حياة طبيعية، البحر قرب الجبل فعلًا، ولا ينقص لبنان المياه. المشكلة أن البحر ملوث، وأن الجبل نهشته الكسارات، وأن النهر لم يعد نهرًا، وأن أهل لبنان لا يفعلون شيئًا سوى التذمر (على سبيل المثال لا الحصر، يردد العونيون جملة تقول "ما خلونا"). حتى انتفاضة تشرين، ضدّ السكوت الطويل، والتي تصادف ذكراها الأولى في مثل هذه الأيام، كانت شكلًا من أشكال التذمر، ولم تكتمل لتكتسب صفة الانتفاضة بمعناها السياسي. 

الآن ليس هناك أي شيء سوى الحديث عن الهجرة، والتذمر من التذمر، مثلما يفعل هذا المقال أيضًا. هل يهاجر اللبنانيون لأنه لا يوجد سياسة في لبنان؟ وجود السياسة كان سيعطّل التذمر، ويجعل التغيير أمرًا يمكن الحديث عنه. ربما، يعتقدون أنهم بالتفكير في كندا، يتخذون قرارًا كبيرًا، ويحدثون تغييرًا كبيرًا في حيواتهم. وهم على حق، لكن ليس بالضرورة أن تكون كندا المتخيّلة على مقاس أحلامهم. لن يجدوا هناك مكتبًا للشباب والطلاب في جامعات تورنتو، يكون مدججًا بالأسلحة، أو يكون تاريخ السياسة بأسره مرتبط بـ"أزعر" هنا أو مجرم هناك. سيفتقدون مثل هذه الحياة السياسية التي عرفوها في لبنان بلا شك.

السياسة في كندا لا تشبه السياسة في لبنان، لكن اللبنانيين في كندا، لا يشاركون في الحياة السياسة الكندية. يهتمون بالأحداث في لبنان. وفي جولة صغيرة على الفايسبوك، أو إذا كنت تعرف لبنانيين في كندا، فليس عليك إلا أن تسألهم. وقد لا يكون مفاجئًا، أن يعرف سكان كيبيك الفرنسية من اللبنانيين، أخبار بلادهم الأم، أكثر من المتغيرات السياسية في وجهتهم كمهاجرين. سيتحدثون عن النزاع على وزارة المالية، وعن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وعن كل ما يتحدث عنه اللبنانيون في لبنان. ستجد عونيين في مونتريال، أو مناصرين لحركة أمل في تورنتو. حتى الآن، يبدو هذا مألوفًا ومتداولًا، وليس حكرًا على اللبنانيين، على الأقل في الحالة العربية. سنجد عراقيين مهتمين بأخبار العراق، أكثر من اهتمامهم في أخبار البلاد الشاسعة التي هاجروا إليها. وقد نجد سوريين يحاولون التقاط أنفاسهم، لكنهم مهتمون بمدنهم التي دمرت. وقد نجد فلسطينيين لا يمكنهم التخلي عن التفكير بفلسطين، وبحرينيين أو يمنيين وغيرهم، ممن يفضلون عدم الاندماج في السياسية المحلية، والإبقاء على الحنين إلى منازلهم الأولى.

للوهلة الأولى، يبدو هذا طبيعيًا أيضًا. لكن، في الحالة اللبنانية، كل شيء مختلف، وبدرجات متباينة، إذ لا تستطيع الجالية التخلي عن لبنانيتها، وتتعلق بلبنان، مثل تعلقها بصورة متداولة عن المهاجرين الأوائل، مثل جبران خليل جبران الذي بالغ بتأثره وفهمه الخاطئ لـنيتشه، وجماعة الرابطة القلمية، الذين لم يجدوا في الحداثة الأمريكية ما يمحو طبق الكبة النية المعد على الأصول من أحلامهم.

ليس هناك أي شيء سوى الحديث عن الهجرة، والتذمر من التذمر، مثلما يفعل هذا المقال أيضًا. فهل يهاجر اللبنانيون لأنه لا يوجد سياسة في لبنان؟

غالبًا لا يكتفي اللبنانيون بإحياء ذكريات الماضي المشتركة في الخارج، لسببٍ بسيط، وهو أنه لا يوجد ماضٍ متفق عليه بين جميع اللبنانيين، وربما لذلك يتابعون الاحتفاء باختلافات الحاضر، عندما يكونون خارج البلاد. لماذا يهاجرون إن كان ذلك لا يحدث من أجل النسيان؟ ربما الاقتصاد. لكن، كندا الآن مثل معظم دول العالم. أزالت السجاد الأحمر، الذي وضعته لاستقبال المهاجرين اللبنانيين. الفرص ليست وافرة.

اقرأ/ي أيضًا: المربون أمام أندادهم الجدد

الحياة هادئة في مونتريال. لا تنقطع الكهرباء كل ساعتين ست أو سبع مرات، ولا يعرف الناس بعضهم البعض من أسماء عائلاتهم، التي تشير إلى المناطق التي يأتون منها. ليست حياةً مثالية كما يتخيّلها البعض. البرد شديد ويقول الذين عاشوا في كندا أن البِيض ليسوا أقلية، وأنك ستشعر بالغربة فجأة. وهذا شعور ملطّف. وقد تنسجم مع المجتمع الكندي، ولا يجب أن نستخدم كلمة تندمج، لأن البشر ليسوا مكعبات ملح يمكن إذابتها في المجتمعات. 

في أي حال، ليس هناك مشاكل في كندا مع المهاجرين حتى الآن، لأن كندا نفسها، هي بلاد للمهاجرين. وإذا كنت حساسًا في مسائل الاستعمار الاستيطاني، فأنت تعلم قطعًا أن هذه الأرض الشاسعة كانت مأهولة من قبل اكتشافها، وأنها مثل باقي أمريكا. ما حدث لم يكن اكتشافها، بل كان اكتشافها بالبِيض. طبعًا هذا ليس تحريضًا على كندا، فهي بلاد تبدو رحبة، والناس على ما يظهرون في سينما إكسافيير دولان الرهيبة يبدون في غاية الود، ولكنهم أيضًا في غاية الوحدة، ويفرطون دائمًا في البحث عن ذوات ضائعة، وفي حال وجدت، يواجهون صعوبة لتحديد وظيفتها في هذا العالم. 

من الإنصاف القول إن دولان، رغم عبقريته، ليس مرجعًا كافيًا لتعرف بلادًا ضخمة مثل كندا، ولكنه سيساعد على التخيّل، أفضل بكثير من دائرة الهجرة، والوكالات التي تنصب على المساكين الذين يسعون لمغادرة "الجحيم" بأي ثمن. 

لماذا يريد اللبنانيون أن يهاجروا؟ لأن الرئيس طلب منهم أن يفعلوا ذلك، إن كان البلد والطقم السياسي الذي يحكمه لم يعجبهم. قال ذلك خلال مقابلته الشهيرة، رافضًا الانتفاضة، وكان ذلك متوقعًا. ما لم يكن متوقعًا، هو أن الرئيس عاد وحدثهم عن الوجهة التي يتجه إليها لبنان: "الجحيم". وهكذا، تكتمل الدعوة تمامًا.

في البداية نصحوا بود ومحبة بأن يهاجروا، ثم أعيدت النصيحة بصيغة أفضل: لبنان سيتحول إلى جحيم. وبالتأكيد، وليس هناك أي دعوة للتذكير، أن الإصلاح وإعادة الإعمار واقعان لا محالة. فرئيس الجمهورية باقٍ، والرئيس سعد الدين الحريري عائد، ورغم أنه لا معنى للتذكير بذلك، ولكن في سياق العرض، فإن صاحب أطول فترة رئاسة برلمانية في التاريخ، نبيه بري، باقٍ هو الآخر. أما اللبنانيين، فالخيار ليس بيدهم. مكسورون. يبدو أنهم ذاهبون إلى كندا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

فلسطين التي يجهلها فراس طلاس

أن تكون معارضًا