22-سبتمبر-2016

غرق مركب هجرة غير شرعية يقل 600 مهاجر قبالة سواحل كفر الشيخ المصرية(محمد الشاهد/أ.ف.ب)

"إما أن ترحل الثروات حيث يوجد البشر، أو يرحل البشر حيث توجد الثروات"، مقولة للمفكر الفرنسي ألفريد صوفي، وهي تلخص الأسباب التي تدفع الأفراد إلى النزوح عن الأوطان، والتماس أسباب الحياة في دول أخرى، آملين في حياة الراحة والاستقرار. وللأسف، المقولة في شقها الأول تحلق بعيدًا جدًا عن الواقع بالنسبة لنا لأن الثروات تأبى أن تترك أوكارها ومرابضها في دول أوروبا وأمريكا وتقيم بين دول العالم الثالث الذي يرزح تحت نِير الفقر والجهل، لكن ما يحدث هو أن البشر، وليس كل البشر طبعًا، هم الذين يرحلون مُرغمين حيث الثروات وحيث الموت أيضًا.

أصبحت الأحوال الاقتصادية والأمنية في مصر طاردة للشباب مما جعل حلم الهجرة يراود عددًا كبيرًا منهم

لا أحد يحب "الغربة" ولا أحد يحب الموت كذلك، لكن عندما تُحكم الظروف قبضتها، يصبح الشباب محاصرًا بين مطرقة الحكومة وسندان الموج المتلاطم، الذي لا يقل قسوة عن الحكومة ويعبث بحياته ويذيبها بين مياهه ويجعله لقمة سائغة لسكانه من الحيتان وأسماك القرش. المشهد على ما يحمل من أسى وحزن، لكن الجميع سيلقي عليه نظرةً ويمر غير عابئ ولا مهتم، بمن فيهم الحكومة نفسها التي ستتعامل مع الأمر بروتينها المعهود والذي يتلخص في مجموعة من الأخبار تُنشر في جرائدها الرسمية مع نعي في شريط أسفل شاشاتها، هذا إن لم تصب جامَ غضبها على الشباب المغامر.

اقرأ/ي أيضًا: بطل لامبيدوزا الصغير.. أطفال مصر يهاجرون!

أصبحت الأحوال الاقتصادية والأمنية في مصر طاردة للشباب مما جعل حلم الهجرة يراود عددًا كبيرًا منهم، فخاطروا بأرواحهم لتحقيق ذلك وفروا باحثين عن النجاة، حالمين بحياة أفضل، عاقدين الأمل على عالم أكثر ثراءً، فأصبحوا أسرى لهذا الحلم الذي لا ظل له في الواقع، يقودهم في النهاية إلى قارب متهالك تتراص فيه الأجساد الحالمة منتشية برغبة الثراء والمتعة، لكن سرعان ما يتناثر هذا الحلم إمَّا على يد خفر السواحل، أو بالموت غرقًا. وعلى الرغم من الحوادث المتكررة في الفترة الأخيرة، إلّا أنّ ذلك لم يثنِ من عزم الشباب عن التفكير في الهجرة بالطرق غير الشرعية، وأصبحوا يبحثون في كل مكان عن سماسرة الهجرة، معتقدين أنّهم طوق النجاة الذي سينتشلهم.

البحر المتوسط مرة أخرى!

لو وقفت على شواطئ البحر المتوسط فحتمًا ستشم رائحة الموت تختلط بهوائه الذي تحمله الأمواج، فالموت يرابط على حدوده حتى كدنا أن نحفظ ملامحه، وقد شاهدنا وجهه الكالح يطل علينا من سماء ملبدة بالحزن والأسى فطبع تلك الملامح على جثة الطفل السوري الغريق الذي لا تزال صورته عالقةً بالأذهان، نظرًا لأنه كان أصغر من أن يختطفه الموت سريعًا وبهذه البشاعة. الأمر لا يختلف هنا كثيرًا فلقد تعددت الأسباب والموت واحد، فالطفل السوري قد فرّ من القتل على يد ميلشيات بشار فيمّمَ وجه شطر البحر المتوسط، فكان البحر أكثر رحمةً بطفولته الغضة فلفظه على شاطئه مخلفًا وراءه مشاعر من الحزن والحنق، أما الـ 600 ما بين مصريين وسودانيين وصوماليين وإريتريين، الذين غرق قاربهم أمس، فقد فروا من شبح الجوع والفقر والبطالة، الذي لا يقل فتكًا عن قذائف الصواريخ الروسية، لكن على الأقل تمكنت قوات حرس الحدود من إنقاذ عدد منهم، فيما أبى البحر أن يمر الموقف بسلام فانتشل سريعًا حوالي أربعين روحًا ذابت بين أمواجه الهادرة، من بينهم 28 شخصًا من قرى الجزيرة الخضراء، التابعة لمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ والبحيرة.

اقرأ/ي أيضًا: من السودان إلى أوروبا.. رحلة الشك والمخاطر

الحكومة تنتفض؟

لم تكلف الحكومة نفسها مرة عناء التفكير في حل واقعي لأزمة الهجرة غير الشرعية المتكررة

لم تكلف الحكومة نفسها مرة عناء التفكير في حل واقعي لتلك الأزمة المتكررة، حلاً خاليًا من التحليلات الجوفاء والوعود والآمال التي لا تتحقق أبدًا ولا تتجاوز حدود القاعات المكيفة وتظل قابعة في أدراج المسؤولين، لكنها بدأت تأخذ الموضوع بعين الاعتبار مؤخرًا مع تزايد وتفاقم الأزمة خصوصًا في عام 2014، حسب تقرير نشرته الجزيرة، عندما قامت دول الاتحاد الأوروبي بإجراء مفاوضات من أجل فتح باب الهجرة أمام الشباب المصري عن طريق الزواج من مواطنات أوروبيات وبالتالي التمتع بحق التنقل بين الدول الأوروبية والحصول على الجنسية فيما بعد.

حينها لم تغضب الحكومة المصرية غضب دولة تُمتهن كرامتها وكرامة أبنائها في جعلها مزحة تتندر بها الدول الأخرى، في أن يرتبط مستقبل أبنائها بزيجة تحمل معها جنسية دولة أوروبية، بل كان تعاملها مع الموقف على شاكلة هيئة إرشادات، كتلك التي تبثها الإذاعة عن الوقاية من إحدى الفيروسات، فقامت وزارة الإعلام بالتعاون مع وزارة الخارجية بحملة لتوعية الشباب من أخطار الهجرة، فكان رد الشباب أن ضربوا بكلامهم عرض الحائط، وبدل أن توفر الدولة ما يغنيهم عن المخاطرة بأنفسهم، قدمت لهم حلولًا مثالية تسد بها أفواه الرأي العام، فلم يعبأ الشباب بها، حتى وصل الأمر إلى حد العناد وإن كلفهم ذلك حياتهم، مثل الذي حدث لأبناء محافظة كفر الشيخ، في غفلة من الأهل والحكومة.

حكايات من قارب الأموات

"سافرت لكي أوفر لنفسي ولأهلي حياة جيدة لأن وضعنا سيئ"، كلمات لفظها سامح، صاحب الـ 18 عامًا، في تقرير نشرته جريدة الوطن المحلية، حيث كان الدافع الذي حثه على السفر هو رغبته في البحث عن حياة أفضل، حتى وإن كان شبح الموت يتعقب تلك الحياة، وأضاف: "غرقت المركب بسبب الحمولة الزائدة". "اللي جاي على أد اللي رايح"، هكذا علق أحمد، ابن الـ 22 ربيعًا، والذي أضاف بعدًا آخر للقصة، فأفصح عن المشاجرة التي جرت بين قائد المركب والمهاجرين بسبب الحمولة وإصراره على المواصلة مما تسبب في حدوث الكارثة.

المستفيد من هذا الحدث بالطبع ليس هؤلاء الذين دفعتهم الظروف للتعرض إلى موت محقق، ربما يستفيد الإعلام الذي سيكوّن من الحدث مادة ثرية، يلحن فيها على أوتار تمجيد النظام ومدى أسفه على أبنائه الضحايا، وقد لا يدرون حقيقةً شيئًا عن الحدث وأسبابه وتبعاته أو أنهم يدرون ويسوقون "الهبل". خلال هذين اليومين، جعلوا من الحكاية موالاً على طريقتهم الخاصة، كل واحد منهم يضيف للحكاية بعدًا جديدًا، ويحذف جزءًا مما يجعل "الحدوتة" في شكلها الأخير لا تمت بأية صلة إلى بدايتها الأولى والتي ستدين بالطبع الدولة التي دفعتهم بإهمالها إلى تلك الطرق غير الشرعية، الكل يتصرف هكذا حكومة وأفرادًا، وقد أصبح الجميع يعيش زمن الخلاص الفردي وشعارهم في ذلك: "أنا ومن بعدي الطوفان".

اقرأ/ي أيضًا:

اللاجئون السوريون ضحايا أساطير المجاهدين

حصلنا على أوروبا، فماذا نفعل بها؟