28-فبراير-2017

مبنى ماسبيرو أهم الصروح الممثلة لتحكم الدولة المصرية في الإعلام (فيس بوك)

من الطبيعي بعد 6 سنوات شهدت فيها مصر ثورة عظيمة والإطاحة برئيسين، أن تخاف السلطة الحاكمة من ثورة أخرى، وطبيعي أن يتحكم غموض المستقبل في انضمام كتلة شعبية متزايدة إلى جانب النظام الجديد، إما خوفًا من توابع الثورة وإما حنينًا إلى "الاستقرار" القديم.

يخبرنا التاريخ عن أوقات الثورات والتي عادة ما تشهد اضطرابًا أمنيًا ومعيشيًا، ولا يخلو الأمر كذلك من مخاوف يجري تضخيمها من قبل البعض على صميم بقاء "الدولة المصرية"، بعد اختصار كيان الدولة في النظام الحاكم نفسه!

الآن، ارتفعت كلفة المعيشة في مصر بمعدلات غير مسبوقة، وارتفعت كلفة الحفاظ على الاستقرار السياسي

الآن، ارتفعت كلفة المعيشة في مصر بمعدلات غير مسبوقة، وارتفعت كلفة الحفاظ على الاستقرار السياسي في مصر بدرجة كبيرة، لكن ما سدّده المصريون حتى الآن من أعباء الحفاظ على "الاستقرار" المزعوم، ليس الثمن الأفدح أو الأعلى كلفة، فالأفدح هو أن تتخلّى الجماهير عن مطالب التغيير، ليس لأن الحاضر أحلى وأجمل، ولكن لأن ما رآه المصريون من سياقات تغيير أعقبت ثورة يناير وعزل مرسي، قاد بعضهم إلى  المطالبة بالعودة لتأميم الحياة على أرض مصر وتحزيم السياسة وتقزيم أحلام من خرجوا في يناير مطالبين بدولة حديثة ومن خرجوا في يونيو رغبة في إسقاط الاستبداد السياسي باسم الدين، فلا نجحت الثورة –حتى الآن- في استدعاء الدولة المدنية الحديثة ولا نجحت مظاهرات يونيو –حتى الآن- في استبعاد الدولة الدينية.

اقرأ/ي أيضًا: تفاقم كارثة نقص الدواء في مصر.. أي حلول؟

وهكذا صرنا شعبًا يخاف الحرية بعدما أدهش العالم بثورته وبعدما جرى إقناعه بأنها باب للفوضى والخراب، وحكومة لا تريد الحرية باعتبارها بابًا لرقابة شعبية تراها معوّقة وغير ناضجة، ومؤسسة دينية تعتبر الدولة المدنية خطرًا على صميم وجودها.

لقد تواضعت أحلام المصريين كثيرًا، لأن النظام الحالي يبدو عازمًا على المضي في استبداده وفي الوقت نفسه يبدو أكثر "غشومية" وتفاهة من سابقيه، نظام يحشد برلمانه من أجل الإطاحة بنائب معارض من النوع المطيع والمهادن، ما يجعل البعض يضرب كفيه استنكارًا لهزال هذا النظام وخوائه مقارنةً بأساتذة الاستبداد الذين تألقوا في سنوات حكم مبارك المديدة.

أصبح لدينا بلد يخاف من غده وشعب يحلم بهذا الغدّ. البلد الذي يخاف من الغد، يعرف أن شعبه ثار في يناير ضد سلطة استبدت بالحكم وأفسدت عبر برنامج ممنهج لتقزيم البلد. البلد الذي يخاف من الغد، هو البلد الممنوع من الحلم، المحروم من النور، الموهوم بالخطر، المسكون بالخوف.

صرنا شعبًا يخاف الحرية بعدما أدهش العالم بثورته وبعدما جرى إقناعه بأن هذه الثورة كانت باب للفوضى والخراب

تحرير مصر من الخوف يبدأ بتمكينها من امتلاك أحلام مُبصرة، لا بمصادرة حلم أجيال خرجت منذ ثورة 1919 تطالب بحقها في دولة مدنية حديثة. والدولة المدنية الحديثة لا يمكن أن يبنيها الخائفون من الغد، ولا يمكن أن يخطّط لبنائها مَن يحرمون جيل الحلم من المشاركة في هندسة مستقبل يليق بثورتهم.

هذه الأيام، أتابع مثل غيري ما يجري من عملية إعادة صياغة الإعلام المصري، وأعترف أن إعلامنا يحتاج بعد 6 أعوام من الانفلات و"الفرهدة" إلى ما هو أبعد من إعادة الصياغة، شأنه في ذلك شأن مؤسسات الدولة المُطيعة جميعًا، لكن كثيرين ممن جرى استدعاؤهم من غرف الماضي ودهاليز الدولة المريضة بدعوى "عقلنة الإعلام"، يتناسون أن أعوام "الفوضى" الستة قد أعقبت 60 عامًا من مصاردة دولة يوليو 1952 لأحلام المصريين، وأن الإفراط في "عقلنة الإعلام" قد يقود في النهاية إلى اعتقال الحقيقة أو إلى مصادرة أي إمكانية لامتلاك إعلام مؤثر.

اقرأ/ي أيضًا: خمس روايات لأسباب انخفاض سعر الدولار في مصر

أرى قنوات قد أُغلقت، أو دُفعت إلى الانسحاب دفعًا، لكنني لا أرى دواعي للإغلاق ولا مبررات للانسحاب القسري. وأرى قنوات إعلامية تولد وتتكاثر، دون أن تقدِّم للناس لا مبررات وجودها (وليسامحني جورج حنين على هذا الاقتباس) ولا أمارات نجاح قادت إلى تكاثرها، بل إن ولادة بعضها جاءت مصحوبة برسائل سلبية، حملت بعض أبناء المهنة ممن جرى استدعاؤهم إلى غرف الولادة، إلى الإنسحاب، مؤثرين الاحتفاظ بأسمائهم بعيدًا عن "عكّ" السياسة وغبارها النافذ. وأرى قنوات إعلامية ثالثة يجري الاستحواذ عليها من قبل وجوه ارتبطت في السابق بمؤسسات وأجهزة سيادية، دون أن أفهم مقدار الغواية في السيطرة على الإعلام بهذا الشكل المفضوح.

تحرير مصر من الخوف يبدأ بتمكينها من امتلاك أحلام مُبصرة، لا بمصادرة حلم أجيال خرجت منذ ثورة 1919 تطالب بحقها في دولة مدنية حديثة

احتكار الإعلام في زمن السماوات المفتوحة، لن يقود إلى احتكار الحقيقة، ولن يُمكّن من أنفقوا المليارات للسيطرة على الفضائيات من السيطرة على عملية بناء الوعي العام. المصداقية هي أقصر الطرق للوصول إلى الناس، ولا أقول تشكيل الوعي العام، لكن بلوغها لا يتم بمجرد أن تقول الحقيقة، إذ يقتضي تصديقها أيضًا أن تدع الآخرين يقولونها كما يرونها، وليس كما تراها أنت، وهكذا، فلا معنى لاسكات أصوات الآخرين ولا حتى لشراء منابرهم، ما دام ذلك السعي لن يحمل الجمهور على تصديقك.

الذين يستدعون ماضي إعلام الستينيات، حيث الدولة هي المهيمنة على الصوت الإعلامي باعتبارها المحتكر الوحيد للحقيقة، ينسون أن العالم الذي حوّلته تكنولوجيا الاتصال إلى قرية كونية صغيرة، لم يعد مؤهلًا لتلقي رسالتهم الإعلامية ولا تصديقها. ولكننا لا ننسى أن تلك الطرق القديمة للمستبدين تؤتي أكلها حين تُطبّق في بلد لا يزال يعاني أكثر من ثلث سكانه أمية القراءة والكتابة.

أتابع أيضًا ما يجري في سياق الإعداد لانتخابات المجالس المحلية، وأرى من يخططون لاحتكار الإعلام المصري ومن يخططون لاحتلال المجالس المحلية، يغرفون من نفس قدور الماضي في صحون يتوّهمون، ويريدون إيهامنا معهم، أنها صحون المستقبل الجديد.

أفهم مخاوف لها ما يبرّرها لدى النظام الحاكم وأذرعته، من دخول وجوه معارضة او غير مرغوب بها إلى المجالس المحلية ولكنني لا أستطيع الزعم بقدرتي على تفهّم ذلك الهوس بالسيطرة على المجال العام وتمويت السياسة بما يقود في التحليل الأخير إلى إنتاج نظام حكم يهيمن عليه من أنتجوا الفساد وتستروا عليه طوال سنوات حكم مبارك وعائلته المجرمة!

مصر تستحق أفضل من ذلك.

اقرأ/ي أيضًا:
سياسات حكومة الجنرال لقتل المواطنين
مصر.. سلام على من يعمل في تخصصه!