29-يناير-2019

لم يكن إسقاط رؤوس النظام يعني إسقاطه (تويتر)

لم يُسقط الشّعب النّظام مع الأسف. كانت ثورة 25 يناير قد أضاءت بأملٍ، تلاشى لاحقًا، على مستقبلٍ مختلفٍ لمصر وللمنطقة. وبالنّظر إلى مصر، اليوم، نرى أنّ ما أُنتج بعد الثّورة، بالتّحايل على السّلطة وسفك الدماء بالطّبع، نظام أعاد بناء ذاته مُقيّمًا أخطاءه السّابقة تقييمًا ذاتيًّا يصبُّ في هدف تطوير أدوات إفقار الشّعب، وتكبيلهِ.

النّقد خيمتنا الأخيرة. النّقد الموضوعي الواضح والمُستمرّ والمنهجيّ. النّقد وتعرية العنف الذي يحصل في الأروقة، بحيث يؤسّس لمرحلة النّضال ضدّه

إنّ الخطأ القاتل في ثورات البلدان العربيّة اعتقادها بأنّها حققت الهدف عند سقوط رأس النّظام. في حالة مصر، هو، أي النّظام، الّذي ضحّى بمبارك على حساب باقي الهيكل الّذي أنقذ مبارك لاحقًا. ثُم عدم إنتاج الثّورة فصيلًا لتمثيل شباب الثّورة، وهم الّذين كانوا يحملون مصداقيّة عالية من الشّعب، وكانوا الأقدر على استكمال الثّورة بدعمٍ شعبيّ، باستئصال رؤوس أُخرى من النّظام القديم.

اقرأ/ي أيضًا: بعد ثورة يناير في مصر: إلى أين انصرف رموزها؟ (1)

تلتفّ الأنظمة بطريقة ممنهجة، وطالما أنّها لا تجد أصواتًا تنتقد وتؤسّس لفعل، فإنّ "منطقة الرّاحة" الخاصّة بهذه الأنظمة تتسع أكثر، ومع اتّساعها يتم بنيويًّا تطوير أدوات السّيطرة بمختلف أنواعها. شيء يُشبه ما حدث لنظام مصر القديم/الجديد.

من الغريب حقًّا أنّ عدم الرضا الواضح من الأنظمة في المنطقة العربيّة، لم يرتبط في أيّامنا هذه، بخطاب نقدي ولو على الأقلّ من الطّبقة المثّقفة الّتي تشمل الأكاديميين بالطّبع. طمعًا أحيانًا وجُبنًا في الأحيان الأُخرى. بل قام النّظام ببناء نماذج لهذه الطّبقة، وزير هُنا ووزير هُناك، واستطاعَ بهذه النّماذج تحقيق نتائج ربما فاجأتهُ هو ذاته. حيثُ تمّ تطويع الشّريحة الأقدر على النّقد بالحدّ الأدنى، وانصرفت إلى مآلات أُخرى كانت، صدفةً، ليس لها علاقة بنقد ما هو موجود، بل ربما ليس لها علاقة بما هو موجود. وأمست حياة الرّفاه الأكاديمي أو الثّقافي ظلًّا يسير ولا يتعارض بالمُطلق مع سياسات النّظام، ومع خطابهِ البائس والمُهترئ.

المعاناة لا تتشكّل بوجود نظام رديء، بل بعدم وجود تيّار نقدي منهجي وواضح ومُستمرّ لهذا النّظام. إنّ ما حصل في مصر من غياب تنظير الطبقة المثقّفة خلال الثّورة وبعدها يُشبه تمامًا غيابها هُنا، في ظلّ طمع مُستمرّ بوضعيّات شطرنجيّة، لا تُنتج بالضرورة إنسانًا حُرًّا.

اقرأ/ي أيضًا: على عتبة الذكرى الثامنة.. السيسي يطارد احتمالات يناير

وليس رغبةً في التعميم، ولكن تذكيرًا بفكرةِ ميشيل فوكو الّتي طرحها في مناظرتهِ الشّهيرة مع نعوم تشومسكي، مُختزلًا فكرة سلطة المؤسّسة بأنّها تصبّ بشكلٍ أو بآخرٍ في خدمة النّظام. وهي، أي هذه المؤسّسات، تتظاهر حسب وصفهِ، بأنّ ليس لديها صلة مباشرة وواضحة مع السّلطة، وباستقلاليّتها عن الدّولة، غير أنّها ليست كذلك. بل تُساهم بشكلٍ ممنهجٍ في خدمة النّظام من خلال المُحافظة على طبقة اجتماعيّة مُعيّنة في موضع القوّة، وحصر امتلاكها لأدوات القوّة بعيدًا عن الطّبقات الأخرى. إذ قال فوكو بكلماته المباشرة "المهمة السياسية الحقيقية هي نقد عمل المؤسسات التي تبدو في الوقت نفسه محايدة ومستقلة، بطريقة تزيل النقاب عن العنف السياسي الذي مورس دوماً عبرها".

النّقد خيمتنا الأخيرة. النّقد الموضوعي الواضح والمُستمرّ والمنهجيّ. النّقد وتعرية العنف الذي يحصل في الأروقة، بحيث يؤسّس هذا النّقد لمرحلة النّضال ضدّها، نضال مبني على نقد دقيق لمختلف أشكال العنف السّياسي الذي يحصل في المجتمع. عدا ذلك، حسب وصف فوكو، ما نفعلهُ هو أنّنا نغامر بأن نرى سلطة الطّبقة هذه تُعيد إنتاج نفسها.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الثورات العربية وثقافة اللاعنف.. حدود الرفض

الثورات العربية بين التحرر والحرية