03-مارس-2017

عبد الناصر الغارم/ السعودية

يفخر المغرب الكبير، بدوله الخمس، بكونه الفضاء الذي شهد ميلاد أول رواية عرفتها الإنسانية، وهي "الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس الأمازيغي (125م-180م)، وميلاد ثاني اجتهاد في القانون للملك الأمازيغي يوبا الثاني، توفي عام 23 بعد الميلاد، بعد تجربة حمورابي في العراق، وأول تأليف في علم الاجتماع والعمران، من خلال "مقدمة" عبد الرحمن بن خلدون، توفي عام 1406 للميلاد، ويقول مؤرخون إن المغرب الكبير سبق مصر في كتابة أوّل رواية عربية، من خلال رواية "حكاية العشاق في الحب والاشتياق"، التي كتبها في الجزائر مصطفى بن إبراهيم باشا، نهايات القرن التاسع عشر، أي قبل رواية "زينب" لحسنين هيكل عام 1914.

علاقة الفضاء المغاربي بالكتاب ذات جذور، وليست طارئةً أو مفتعلةً

هذه الولادات السبّاقة في مجال الكتابة، بالإضافة إلى نخبة من المكتبات الرائدة، التي عرفتها مدن مغاربية كثيرة منذ فجر التاريخ، مؤشر على أن علاقة الفضاء المغاربي بالكتاب ذات جذور، وليست طارئةً أو مفتعلةً، غير أنها تطرح في الوقت نفسه هذا السؤال: هل ينسجم هذا الماضي الثري مع حقيقة ما هو موجود اليوم؟

اقرأ/ي أيضًا: كتب تنتظرها مجلة "تايم" هذه السنة

يقترب سكان الدول الخمس المشكلة للفضاء المغاربي، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، من مئة مليون نسمة، أي ما يساوي ثلث المواطنين العرب، 77% منهم متعلمون، و70% شباب، ويتفوق عدد الطلبة في بعض الدول، مثل الجزائر والمغرب، على عدد سكان العشرات من الدول العضوة في "هيئة الأمم المتحدة". أي أن هناك بيئةً خصبةً، من حيث المبدأ، للقراءة، وهو ما يُشكّل سوقًا معتبرة في مجال النشر والتوزيع.

من الملاحظ، بما يُحيل الباحثين على متاعبَ كثيرة، ندرة الدراسات والإحصاءات المتعلقة بعدد دور النشر المغاربية وعدد العناوين الصادرة سنويًا، ذلك أن كلّ ما يُسجل على مستوى مصالح الإيداع القانوني المنتمية عادةً إلى المكتبات الوطنية، لا يصدر بالضرورة في حينه أو لا يصدر أبدًا، كما أن تعتيم قطاع واسع من الناشرين على عدد العناوين التي يبيعونها، لأسباب تتعلق بحقوق النشر والضرائب المعتمدة، يلعب دورًا في الجهل بملامح قطاع النشر، ويُبرمجها على الضبابية وكثرة الاحتمالات.

في ظل هذا الواقع، يبقى رصد الإقبال على معارض الكتاب، عارضين مشاركين وجمهورًا زائرًا، خاصة الدولية منها، في العواصم المغاربية المنخرطة في هذا التقليد، مثل الدار البيضاء وتونس العاصمة والجزائر العاصمة، النافذة الأكثر مصداقيةً في هذا الباب.

بحسب الموقع الرسمي لـ"صالون الجزائر الدولي للكتاب"، فإن عدد الناشرين المشاركين في الدورة العشرين، عام 2015، بلغ 910 دار نشر، من 53 دولة، منها 290 دارًا جزائرية، وسجلت الأيام الأخيرة من الدورة 126700 زائر، من مختلف الأعمار والشرائح.

في المغرب، بلغ "المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء" دورته الثانية والعشرين عام 2016، وبلغ عدد زواره 370.000، بمشاركة 686 ناشرًا قدموا من 44 دولة، عارضين 100.000 عنوان في التخصصات المختلفة.
على عكس ليبيا، التي لم تستطع أن تخرج من دوامة العنف، حافظت تونس على معرضها السنوي للكتاب السابق على معرضي الجزائر والمغرب بعشر دورات، إذ لم يتوقف إلا عام 2014، مستقطبًا في دورته الثانية والثلاثين 237 ناشرًا من 23 دولة.

يقترب سكان الدول الخمس المشكلة للفضاء المغاربي من مئة مليون نسمة

يرعى هذه المعارضَ قادةُ الدول الثلاث شخصيًا، وتضمّ برامجَ ثقافية وأدبية وفكرية تنشطها وجوه من القارات الخمس، بالإضافة إلى جوائزَ تثمّن فعلي الكتابة والنشر. نجد في الجزائر جائزة "آسيا جبار" للرواية، وفي تونس جوائز الرواية والشعر والقصة وكتاب الطفل وجائزة "مجهود ناشر"، وفي المغرب "جائزة الكتاب".

اقرأ/ ي أيضًا: لعنات النشر العربي

وأشادت نخبة ناشرة من لبنان وسوريا والعراق ومصر والخليج العربي، لـ"ألترا صوت" بحماس القارئ المغاربي في اقتناء الكتاب والتنويع فيه وعمق اطلاعه على جديد النشر في العالمين الناطقين بالعربية والفرنسية. تقول فاطمة البودي مديرة "دار العين" المصرية إنها، رغم بعض العراقيل الإدارية والجمركية، لا تفوّت فرص المشاركة في المعارض الثلاثة، "ففيها نلتقي نخبة متميزة تنتج الأفكار والنصوص، وآلاف القرّاء المقبلين بلهفة على الكتاب".

بالموازاة، تنظم وزارات الثقافة ونقابات ناشري الكتب والجمعيات المدنية معارضَ وطنية ومحلية على مدار العام، يلتقي فيها الناشرون المحليون بقراء المدن البعيدة عن العواصم المعروفة بكثرة فرص الحصول على الكتب. يعترف أحمد ماضي رئيس "النقابة الجزائرية لناشري الكتب" بأن الإقبال على الكتاب في المدن الداخلية أكبر منه في الجزائر العاصمة، "هذا ما نلمسه سنويًا في معارض تحتضنها هذه المدن، مثل باتنة وقسنطينة وتلمسان ووهران".

الملاحظة نفسها تنطبق على مدن مغربية كثيرة، منها تطوان وطنجة ومكناس وتارودانت وكلميم، ذلك أن هناك تعطشًا للقراءة، بحسب الشاعر المغربي عادل لطفي، في ظل توفر هذه المدن على أوقات إضافية، بالمقارنة مع المدن الكبيرة، التي تشغلها وتيرتها الاقتصادية والسياحية المتسارعة.

في السياق، يشكل المعرض السنوي الخاص بالكتاب الموريتاني، الذي تنظمه المكتبة الوطنية في نواكشوط، فرصة يلتقي فيها شركاء عملية النشر، من كتاب وناشرين ومطبعيين وموزعين ومكتبيين، لتبادل الأفكار والخبرات، بالموازاة مع توفير نافذة للقارئ الموريتاني لاقتناء الجديد، خاصة أن الناشرين يتنافسون في إطلاق تخفيضات مغرية.

يكاد الدعم الحكومي للكتاب، في معظم الدول المغاربية، أن يكون مرافقًا للدعم المتعلق بالمواد الاستهلاكية. ففي الجزائر، يعمل "الصندوق الوطني للآداب والفنون" التابع لوزارة الثقافة، على دعم حوالي ألف عنوان سنويًا، وفي المملكة المغربية، بحسب مصدر حكومي، مسّ الدعم 459 مشروعًا، عاد إلى 71 مستفيدًا، يتوزعون على 35 دار نشر، وعدد من الجمعيات التي تشتغل في مجال الكتاب (18 جمعية). ويشمل الدعم في هذا الإطار، والذي يصل إلى 60% من تكاليف الكتاب، واجبات لجن القراءة والمصححين والتصفيف والإخراج وتكاليف الطباعة. كما يهمُّ شراءَ الحقوق، بما فيها حقوق الترجمة. وبلغ مبلغ الدعم المخصص لهذا المجال 7.380.000 درهم، ويشغل ذلك 50% من المبلغ الإجمالي المخصص لمجمل المجالات.

غير أن هذه العنايات الرسمية المختلفة، لم تستطع أن تحلّ جملة من المشاكل والمعوقات، التي تحول دون وصول الكتاب إلى مضارب القراءة، إذ تبقى شبكة التوزيع هزيلة في الدول الخمس، حتى بات الحصول عليه خارج المعارض المنظمة ومكتبات المطالعة العمومية والمكتبات الجامعية صعبًا ومتعبًا.

الكاتب المغاربي لا يقرأ لزميله المغاربيَّ إلا إذا صدر كتابُه عن إحدى الدور العربية أو الفرنسية

وتتعدّى إكراهات توزيع الكتب النطاق القطري لكل بلد، إلى النطاق المغاربي العام، إذ تنعدم الآليات القانونية والجمركية والتجارية، التي تجعل الكتاب الصادر في إحدى دول الاتحاد متوفرًا في الدولة الأخرى. فالكاتب المغاربي لا يقرأ لزميله المغاربيَّ إلا إذا صدر كتابُه عن إحدى الدور العربية أو الفرنسية المشاركة في معارض الكتاب المغاربية.

اقرأ/ ي أيضًا: علي عبد الأمير: زمن النشر الإلكتروني

هذا الواقع، أسس لظاهرة لجوء الكاتب المغاربي إلى دور النشر العربية والفرنسية، بحسب اللغة التي يستعملها، حتى لا يبقى كتابه في حكم المخطوط، في حالة نشره في بلده، بل إن نسبة كبيرة من الكتاب المغاربيين لم تحظَ بأيِّ التفات إليها، إلا بعد نشرها خارج الفضاء المغاربي، وافتكاكها لجوائز عربية وعالمية وازنة.

إذن، نحن أمام مشهد مغاربي ثري بالمواهب والحماس للقراءة، بما يجعل منه سوقًا معتبرة في مجال الكتاب، في مقابل نقائصَ واختلالاتٍ كثيرةٍ تحول دون أن يتحوّل هذا المعطى الثقافي والتجاري إلى واقع ملموس، وهو ما يدعو المستثمرين في هذا الباب عربيًا وغربيًا، إلى فتح كتاب الاستثمار في بيئة تعدّ حلقة الوصل بين القارات الثلاث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن دور النشر وكتبها المترجمة

مصر.. ناشرون شباب وضلالات