26-مارس-2021

أمام المجلس التشريعي في رام الله (Getty)

يعيدنا قرار وقف المخصصات المالية عن مؤسسة ياسر عرفات إلى دور المال السياسي في التحكم بسلطة القرار السياسي الفلسطيني. فقدت المؤسسة إمدادها المالي على إثر قرار رئيسها ناصر القدوة الترشح لانتخابات المجلس التشريعي في قائمة منفصلة عن قائمة فتح.

بعد وفاة عرفات واستلام عباس، طفت على السطح العديد من السلوكيات المشبوهة التي كانت في جلها تهدف إلى تعميق الفساد في مؤسسات السلطة

ليست هذه الحادثة حالة خاصة بل هي امتداد لظاهرة لها جذورها في مسار الثورة الفلسطينية المعاصرة، إذ تعيدنا إلى فترة استلام ياسر عرفات زمام القرار الفلسطيني، حيث كان توظيف المال أحد أهم الأوراق الرئيسية بيده في إدارة العمل السياسي وفق تصوره من خلال التحكم بكل العاملين بالحقل التنظيمي السياسي والعسكري.

اقرأ/ي أيضًا: تحت غيوم "صفقة القرن".. ماذا قال الفلسطينيون عن ربع قرن منذ اتفاقية أوسلو؟

اعتمدت منظمة التحرير مع انطلاقة الثورة الفلسطينية على الدعم العربي السخي، خاصة من دول الخليج، وقد استعملت تلك الأموال الضخمة التي كانت تصب بحسابات منظمة التحرير على عكس ما كان مراد لها، أي في اتباع سياسة شراء الذمم، ما ثبت معادلة قوامها الولاء مقابل المنفعة، وهي المعادلة التي خلقت شبكة من العلاقات مبنية على الاستفادة من الأموال المتدفقة أنتجتها بنية سلطوية لتوزيع الموارد والمنافع، من خلال بناء علاقات تنظيمه وشخصية اجتماعية.

استطاع ياسر عرفات حبْكَ كل خيوط اللعبة في يده عن طريق إدارة الحالة الفلسطينية عبر وسائل متعددة كان للمال دوره البارز فيها، وهو ما كرّس بعض الظواهر المنفرة التي أخذت تتحول مع الوقت إلى مظهر عام واسع النطاق، حين أصبحت من بديهيات العمل التنظيمي، فكنا نرى آلافًا من الأشخاص المفرَّغين على ملاك التنظيمات والهيئات والمؤسسات الفلسطينية يقبضون رواتبَ وليس لهم أي عمل! الشيء الوحيد الذي يقدمونه هو الولاء والدعم للجهة التي يقبضون منها الأموال، إلى حد أن أصبح التفرغ هدفًا بحد ذاته لكل شخص يريد أن يلتحق بالثورة الفلسطينية.

هناك مئات القصص والحوادث والشواهد لأشخاص لم يقدموا شيئًا للثورة الفلسطينية، بل لم ينتموا إليها أصلًا إلا أنهم محسوبون ويقبضون مرتبات على ملاك (جسم) ما بداخل المؤسسات الفلسطينية.

للأسف لعب ياسر عرفات دورًا سلبيًا في هذا الاتجاه، وعلى الرغم من محبة الملايين من البسطاء الفلسطينيين لشخصه واعتباره رمزًا للثورة إلا أن أخطاءه كانت جسيمة بل كارثية وقاتلة، باستئثاره بقرار منظمة التحرير الفلسطينية عن طريق سيطرته الشخصية على أموال المنظمة وتوزيعها، يمينًا وشمالًا، دون حسيب أو رقيب، على جهات وأشخاص تلعب درجة الولاء المعيار في توزيعها، حتى وإن كانت الجهات مشبوهة أو الأشخاص عرفوا بالفساد، بالإضافة إلى تدجين مواقف بعض التنظيمات الفلسطينية عن طريق ابتزازهم سياسيًا لتمرير قراراته وخياراته، أو معاقبتهم اذ وقفوا في وجه خياراته السياسية بوقف المخصصات المستحقة عن طريق الصندوق القومي الفلسطيني، أو بالدعم المالي السخي لحالات الانشقاق التي حدثت داخل صفوفها.  

بعد اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية أخذ المال السياسي نقلة جديدة بالتغلغل في الساحة الفلسطينية بشكل أكثر سلبية، وأصبح أكثر تجذرًا في تأثيره على المسار الوطني الفلسطيني عن طريق خلق دائرة نفعية أصبحت متمثلة في القرابة العائلية والمناطقية، وحتى العشائرية، وإن أخذت شكلًا تنظيميًا أو سياسيًا فقد استعملت كأداة ونهج استراتيجي للسيطرة على القواعد الشعبية، وتوسيع شبكة المؤيدين من خلال توزيع الأموال والامتيازات، وهذا بدوره ساعد الجهة المتحكمة بقرار السلطة في المحافظة على الوضع الراهن لتزداد الصورة بؤسًا بعد دخول الجهات المانحة على الخط، فأصبح مشروع تسوية هو الورقة الضاغطة التي تعتمدها الجهات المانحة، خصوصًا الأمريكية والأوروبية، وكذلك إسرائيل، من خلال ما تورده للسلطة من أموال مقاصة (آلية مالية) بمقتضى بروتوكول باريس الاقتصادي، ما خلق حالة من التراجع والسكون بساحة العمل النضالي الفلسطيني، وأصبح توظيف المال السياسي وفق معادلة السكوت عن فساد مسؤولي السلطة مقابل تمرير نهج التسوية.

بعد وفاة ياسر عرفات واستلام محمود عباس زمام السلطة طفت على السطح العديد من السلوكيات المشبوهة التي كانت في جلها تهدف إلى تعميق الفساد في مؤسسات السلطة عن طريق شراء الذمم ومحاولة إذلال وتجويع المناضلين، وطوال كل هذه السنوات تم ضرب المشروع الوطني الفلسطيني برمته بالصميم فقد أصبح المال السياسي أسلوب ضغط ومساومة، ليصل إلى سياسة العقاب ضد كل من يقف ضد نهج السلطة، فتمت محاصرة قطاع غزة اقتصاديًا بعد سيطرة حركة حماس عليها وذلك بقطع رواتب موظفي السلطة المقيمين في القطاع بتهمة الانتماء لحركة حماس. بالإضافة لتوظيف المساعدات التي يتم تقديمها لقطاع غزة تحت عنوان التخفيف من المعاناة الإنسانية لخدمة مشاريع مشبوهة، واعتمدها العضو المفصول من حركة فتح محمد دحلان مدخلًا للعودة للحياة السياسية بدعم من جهات إقليمية، لكن هذا الدور لم يستطيع أن يبلور برنامج أو رؤية سياسية.

في النهاية ما هو موجود في رام الله اليوم لا يعدو كونه إلا نسخة معدلة عن تجربة جمهورية الفاكهاني

الظروف التي رافقت إنشاء السلطة الفلسطينيّة وربطها بالشراكة الاقتصاديّة والأمنيّة مع إسرائيل، وبرعايةٍ الدول المانحة، لم تخلق حالة فساد طارئة، بل كان نتيجة طبيعية لذلك النهج الذي لعبت إسرائيل دورًا أساسيًا في تعزيزه، وذلك بحماية الفاسدين بطرق ووسائل عديدة لم تكن ممكنةً لولا تواطؤ وموافقة المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية.

اقرأ/ي أيضًا: القابضون على جمر الاعتدال

قصة المسار الفلسطيني مع المال السياسي متعددة وتتجاوز الكتابة عنها بمقال واحد، بل تحتاج إلى دراسة مستفيضة، إذ ستظل الرواية مفتوحة وتكمن في تفاصيلها وأرقامها وشهودها. وللأسف توظيف هذا المال السياسي قضى على تحقيق حلم بناء الدولة وبناء مؤسسات حقيقية بسبب استمرار النهج الذي راكم تجربة الشتات وواصل نفس السياسات في إدارة مؤسسات منظمة التحرير من الأردن إلى لبنان إلى تونس، وصولًا للداخل الفلسطيني، وبالنهاية ما هو موجود في رام الله اليوم لا يعدو كونه إلا نسخة معدلة عن تجربة جمهورية الفاكهاني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لا يعرفون أين تقع القدس!

في فلسطين.. ملكيون بلا ملك