11-نوفمبر-2015

محمد صبرة/ مصر

لعل أهم ما أنجزته الانتفاضات العربية، أنها سلَّطت الأضواء من جديد على السؤال حول دور "المثقف"، وخصوصًا بعد أن جاءت تحليلات أغلب من كانوا يعرفون بـ"الأسماء الكبيرة"، خلال الأعوام الأربعة السابقة، بعيدة بشكل كبير، عن راهن الشارع العربي، وتحولات انتفاضاته ومستقبلها.

 لماذا لا نجد أية حسرة لدى المثقف المصري على الكم الهائل من مقتنيات كُتَّاب ومفكرين تأكلها الفئران في مخازن الدولة؟

بالتأكيد هناك دومًا استثناءات، وجب التنبيه على هذه البديهية، قبل الاتهام بالتعميم، في مجتمعات تعج بالاتهامات السريعة، التي تصل إلى حد التخوين لأتفه الأسباب. منذ أسبوعين، شهدت الأوساط الثقافية المصرية، ما يمكن أن نسميه بـ"انتفاضة المثقفين" على مواقع التواصل الاجتماعي. بعد أن كتب صحافي مصري، مهتم بمتابعة مزادات بيع المقتنيات الشخصية النادرة، على صفحته في "فيسبوك" أنه سيحضر مزادًا مغلقًا لبيع مقتنيات الأديبة اللبنانية مي زيادة (1941-1886)، التي تحتوي على "بلاوي وكراتين وأوراق ورسائل من العقاد وطه حسين وأمراء وعظماء" على حد تعبيره.

انتشر "البوست" انتشار النار في الهشيم، بعد أن تداولته الصحافة المصرية. بدأ عدد كبير من المثقفين بتوجيه النداء إلى وزير الثقافة لمطالبته بالتدخل الفوري لوقف هذه المهزلة. وبالفعل شكَّل رئيس "دار الكتب والوثائق" لجنة للتفاوض مع منظمي المزاد، والاطلاع على الوثائق والصور ووقف بيع ما يخضع للحماية القانونية منها. انتهت حكاية مي زيادة، كما وضَّح لنا تحقيق موقع "زحمة دوت كوم": "الشقة ليست لمي زيادة وإنما لمقتن آخر، وجد بعض أوراق مي بطريقة ما في شقتها التي توفيت فيها وبعض كتبها ليست بالحجم الذي جاء في البوست، ولديه مقتنيات أخرى لأشخاص آخرين يعرضها للبيع، لكن البوست الذي قلب الدنيا أوقف عملية البيع إلى حين". ليس في وسعنا إلا أن نشكر هؤلاء المثقفين، فلولاهم لما توقف بيع بعض أوراق ميّ وكتبها المنشورة أصلًا!

لم يمر أسبوع واحد، حتى انتفض هؤلاء المثقفون مرة أخرى، لكنها انتفاضة من أجل حرية الإبداع هذه المرة. إذ تعرض صحفيان من جريدة "أخبار الأدب" للمحاكمة، بتهمة "نشر وكتابة مقال جنسي خادش للحياء". تبين أن المقال المذكور هو فصل من رواية، وهي حادثة ليست جديدة، لكن المثقفين الحريصين على حرية الإبداع، تضامنوا مع صحفيي "أخبار الأدب"، ببيان وقع عليه عدد ليس بالقليل. 

من الممكن الآن، رصد صمت هؤلاء المثقفين "الثوريين" في مواقف شبيهة كثيرة، بكل بساطة، وبالأسماء رغم كثرتها. خصوصًا منذ استيلاء العسكر على حكم مصر. فمن الممكن أن نتساءل، على سبيل المثال: لماذا لم نجد نفس الحسرة على الكم الهائل من مقتنيات كُتَّاب ومفكرين تأكلها الفئران في مخازن الدولة، أو لماذا لم نجد نفس التضامن مع منع عرض مسلسل "أهل إسكندرية" للكاتب والسيناريست بلال فضل، الذي يتناول فساد الشرطة قبل "يناير"؟ لكن ليس هذا ما يعنيني، بقدر البحث عن الأسباب التي تجعل "المثقف" الواحد، ينتفض بجسارة في موقف ما، ويصاب بخرس مزمن في موقف آخر. 

عوامل كثيرة تتحكم في الحيثيات التي يبني "المثقف" مواقفه على أساسها، ويبدو أنه في مصر، كان عامل "الأيديولوجيا" أبرزها في الأعوام الأخيرة، وليس أدل على ذلك من "البكائيات" التي أقامها بعض المثقفين منذ عدة أشهر، على مواقع التواصل الاجتماعي، في ذكرى مرور مائة عام على "مذابح الأرمن" التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية، والسكوت غير المبرر (بل والتحريض أيضًا)، على مذبحة، مثل "رابعة"، وقعت منذ عامين، أمام أعينهم. وبالطبع ليست الإشكالية هنا في مسألة التذكير بمذابح الأرمن وإدانتها، إنما في استخدامه سياسيا في الواقع المصري، لصالح نظام السيسي، من باب إحراج تركيا، حليفة معارضيه من الإخوان.

لا تختلف "انتفاضات" المثقفين المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي، عن "زوبعات" ريهام سعيد

وبلا أدنى شك، يجب توضيح بديهية أخرى (منعًا لتهمة الأخونة، التي لم يسلم منها رئيس وزراء بريطانيا): أن الحرص على مقتنيات مي زيادة وغيرها من الكُتَّاب أو التضامن مع كاتب/ـة من أجل حرية الإبداع، مسائل واجبة في حد ذاتها ولا خلاف على ذلك. إلا إنه من الممكن أيضًا أن تكون مواضيع جيدة لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي، بعيدًا عن سيرة آلاف المعتقلين والمخطوفين وتمرير القوانين التي ترهق المصريين اقتصاديًا، أكثر. سواء كان ذلك بعلم هؤلاء المثقفين أم باستخدام النظام لمثل هذه الحوادث (وتدبير بعضها). ليصبحوا أداة إلهاء للرأي العام، فلا تختلف "انتفاضات" المثقفين على مواقع التواصل الاجتماعي، عن "زوبعات" ريهام سعيد.  

في حوار مع الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير، وفي سياق حديثه عن "المثقف"، يقول: "على المثقفين أن يقوموا بثورة راديكالية في أفكارهم: عملية تثقيف طويلة ومؤلمة وصعبة. صراع داخلي وخارجي لا نهاية له". يبدو أن الإشكالية لم تعد في نقص المعرفة فقط، بل في قدرة المثقف أيضًا على ضبط المسافة جيدًا، بينه وبين النظام/ المؤسسة الثقافية. وإلا تحول إلى ترس في ماكينة نظام، يحدد له متى يجب أن يكون صامتًا، ومتى وأين يُسمح له أن يلعب دور الثوري/ التنويري، شرط أن يكون في المساحة المحددة له سلفًا.

اقرأ/ي أيضًا:

"مذكرات عربجي".. حدوتة مصرية يرويها الأسطى حنفي

جهاد هديب.. أو بوحٌ لا يعني أحدًا غيرنا