21-أكتوبر-2017

إعادة العمل بقانون "حماية القيم من العيب" يؤزم الوضع مصريًا (أحمد إسماعيل/ الأناضول)

لا يمكن فهم طبيعة تفكير النظام المصري الحالي، وما يفرضه من قرارات وقوانين ملزمة تتخطي بسلطتها النصوص الدستورية، إلا في ظل سعيه الدؤوب لتجفيف أي منبع معارض لسياساته وفرض هيمنته، بشكل يجعل منه نظامًا إلهيًا يتحكم في كل شيء.

تخطت الدولة المصرية كل التوقعات المتشائمة من خلال حرصها على نشر ثقافة الخوف والتحريض والتمييز والترويج لخطاب الكراهية

ولا مفرّ من الإقرار بأن هذا النظام يعرف ما يريده جيدًا، ويعمل على تنفيذه بكل ما أوتي من قوة ونفوذ وبلطجة. فلم يكفه إصدار وطبخ القوانين في فترة الفراغ الرئاسي أو المرحلة الانتقالية في عهد الرئيس المؤقت عدلي منصور، ولم يتورّع عن هندسة برلمان صار مثل الفضيحة التي يسعى صاحبها لإخفائها عن الجميع، ولم يتوان عن إصدار المزيد من القوانين القمعية السالبة للحريات، وحاول بكافة الطرق تفتيت المجتمع المدني وتجفيف موارده ومطاردته بأدواته الأمنية لغلق المجال العام أمام كافة الأصوات التي تطالب باحترام حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير. باختصار، تخطت الدولة المصرية كل التوقعات المتشائمة من خلال "حرصها الواعي" على نشر ثقافة الخوف والتحريض والتمييز والترويج لخطاب الكراهية.

اقرأ/ي أيضًا:  المجتمع المدني المصري في قبضة أمن الدولة بقانون جديد.. 3 أسئلة تشرح الكارثة

ولسنا ببعيدين عن آخر ما تقتقت به أدمغة مهندسي "الترويع والإرهاب الدولتي"، ففي الثامن من الشهر الحالي، أي قبل يومين من انتهاء حالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ 10 نيسان/أبريل الماضي، جاء قرار رئيس الوزراء (المفوض في اختصاصات رئيس الجمهورية في قانون الطوارئ) بإلزام النيابة العامة بإحالة القضايا المرتبطة بالجرائم المنصوص عليها في قوانين "التجمهر" و"التظاهر" و"العقوبات" و"تخريب المنشآت"، و"مكافحة الإرهاب" و"التموين" و"التسعيرة الجبرية" و"الأسلحة والذخائر" و"حرمة أماكن دور العبادة" و"تجريم الاعتداء على حرية العمل" إلى محكمة أمن الدولة الاستثنائية المشكلة بموجب قانون الطوارئ. 10 قوانين، أغلبها غير دستوري بحكم المحكمة، تستغلها السلطة التنفيذية لإصدار أحكام نهائية بحق المتهمين، ولا مجال هنا للحديث أصلًا عن عدم توافر أسس المحاكمة العادلة لهؤلاء المتهمين أوانتفاء فرصتهم في خوض جولات قضائية لاحقة قد تأتي لهم بحقوقهم الدستورية.

في الشهر ذاته، خرج علينا وزير العدل حسام عبد الرحيم بقرار غريب أعاد به العمل بقانون اسمه "حماية القيم من العيب" يحمل في طيّاته جرائم فضفاضة، من النوع المعتاد وجوده في مثل تلك النصوص القانونية الفاضحة، كأن ينصّ على محاكمة "كل من ارتكب ما ينطوي على إنكار الشرائع السماوية أو ما يتنافى مع أحكامها"، أو تجريم "تحريض النشء والشباب على الانحراف عن طريق الدعوة إلى التحلل من القيم الدينية أو عدم الولاء للوطن".

العام الماضي، انشغلنا بالمعركة البرلمانية الهزلية لمنع روايات نجيب محفوظ لأنها "خدش للحياء"، ومرّ العام الماضي أيضًا وأحمد ناجي في سجنه لأنه "خدش حياء المجتمع"، حتى إسلام بحيري دخل السجن لأنه قال كلامًا ليس على هوى الأزهر. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الأسماء السابقة، وغيرهم من ضحايا الجهل المقدس، فإن ما كان سابقًا من حملات دعم وتذكير بحقوق الكتاب والبشر جميعًا في التعبير عما يؤمنون به بحرية ودون خوف، سيصير حلم يقظة مستعاد بفضل قوانين الست الحكومة والسيد النظام حاميًا حمى الأخلاق الحميدة والتقاليد العريقة.

مع إعادة العمل بقانون "حماية القيم من العيب"، صارت حقوق المصريين في التعبير عما يؤمنون به بحرية ودون خوف حلم يقظة لا أكثر

بالطبع يمكن فهم خطاب الإعلام الموالي للنظام في كيله الأسباب والمبررات الضرورية لإنفاذ مثل هذه القوانين في الوقت الحالي، من خلال اللعب على نغمة "أخلاق المصريين التي تغيرت بعد ثورة 25 يناير"، ولكن للتذكير فقط فإن أغلب المصريين عانوا الشعور بالظلم واليأس والإحباط وغياب العدالة وانعدام الثقة بين الشعب والحكومة وانحياز الدولة لأصحاب المال والنفوذ على حساب البسطاء، بحسب "دراسة شاملة لمنظومة القيم في المجتمع المصري خلال الـ50 عامًا الأخيرة" صدرت في عام 2009 قام بها الدكتور أحمد زايد، العميد السابق لكلية الآداب بجامعة القاهرة، بتكليف من الدكتور أحمد درويش، وزير التنمية الإدارية وقتها.

التجارب المصرية في مجال "الصحوة الأخلاقية للدولة" تخبرنا أنها دومًا ما تكون غطاء لأفكار وأهداف سياسية، يجري من تحتها تمرير اعتقالات وغلق صحف (السادات) أو خوفًا من إهانة الرئيس (مرسي)، ولكن الخطير في هذه الخطوة الأخيرة هو تأشيرها على المدى التسلطي الذي يسعى النظام المصري لانتهاجه كاملًا، وبأقصى ما فيه من استبداد وإقصاء ومنع وتحريم.

التجارب المصرية في مجال "الصحوة الأخلاقية للدولة" تخبرنا أنها دومًا ما تكون غطاء لأفكار وأهداف سياسية

فإذا كان عاديًا لنظام مثله، دكتاتوري وليد يحاول توطيد أركان حكمه الممتد بإذن الله، أن يحشد ترسانته القامعة بحزمة من الإجراءات والقوانين الاستثنائية التي تستهدف العاملين في المجال السياسي وما يتصل به، فإن مكمن الخطورة يتمثل في مدّه لذلك النهج القمعي باستهداف الأفراد "غير المسيّسين" بقوانين مستدعاة من عهد "الرئيس المؤمن" أنور السادات، رغبة في تأكيد أمر غالبًا موجه إلى داخل النظام نفسه، وكأنه يزايد على الجميع.

اقرأ/ي أيضًا:  النظام المصري يستدعي محاكم أمن الدولة الاستثنائية.. وطوارئ مبارك تعود من جديد

والحال، إن صحّ هذا الاحتمال، أننا أمام حالة من الطغيان اللامتناهي والمتباهي بقوته، لا تجد رادعًا يجعلها تُعيد التفكير في طبيعتها "الغشيمة". الأمر مثل بلطجي في حارة يسوِّر نفسه بمناصريه لحمايته كي يستمر في فرض سيطرته وممارسة سلطته، وفي نفس الوقت يصدّر خطابًا لأهل الحارة يقول فيه إنه يحافظ على قيم وتقاليد الحارة العريقة في مواجهة الفتن والبدع الغريبة على مجتمعنا الوسطي "الكيوت"، كنوع من الهروب من مواجهة المشكلات الحقيقية لأهل تلك الحارة المنكوبة بوجوده.

أو ربما هو السيد أحمد عبد الجواد، الذي يحكم بيته بقوانينه الذكورية الصارمة ويفرض الحصار على بناته، لكنه هو نفسه الذي يعود إلى منزله بعد كل سهرة ماجنة ليجد في انتظاره امرأته /زوجته التي عوّدها أن تخلع عنه ثيابه وتغسل قدميه قبل النوم. والتشبيه هنا لا يبتعد كثيرًا عن واقع الأحوال، لأن ما يحدث في مصر حاليًا يحتاج وصفه إلى خبراء نفسيين وعلماء اجتماع يشرحون الأسباب الميتافيزيقية لإصدار مثل تلك القوانين التي لا تفعل شيئًا مفيدّا سوى خداع أصحابها وتأكيد ذواتهم المهووسة بالمراقبة وفرض السيطرة على خلق الله، بدلًا من تأدية مهامها الأصلية في توفير الحماية والأمن لهم وانتظار محاسبتها من قبل هؤلاء الذين تريد فرض رقابتها عليهم.

ومن جديد، كيف يمكن هضم قانون مثل "حماية القيم من العيب" في بلد يتصدر القوائم العالمية في البحث عن المواد الإباحية على الإنترنت؟ هل سيُنهي القانون مأساة نساء وبنات مصر في اختبار التحرش الجسدي واللفظي بصورة شبه يومية في الشارع وأماكن العمل؟ هل فكّر من قرّر إحياء هذا القانون المعيب، ولو للحظة، في القيام بمراجعة لسياسات النظام/ الدولة/ الرئيس على مدى الأربع سنوات الأخيرة ليقف على حجم "العيب" المرتكب بحق المواطنين المصريين بإثقال كاهلهم بأعباء لا يعرفون أسبابها ولا مبرراتها جعلتهم يتحسّرون على أيام مبارك؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

التحرش الجنسي متواصل في مصر.. والشرطة على الخط

"أنا أيضًا ضحية تحرش" #Me_Too.. حكايات مؤلمة وواقع مرير