07-ديسمبر-2022
gettyimages

برازيليون خلال مشاركتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة (GETTY)

واحدة من سمات عالمنا وعصرنا الحديث، هي تشابك وتداخل كافة الأحداث والظواهر مع بضعها البعض، ولعل أبرز تجليات هذا التشابك هو كرة القدم، الرياضة الشعبية الأولى في العالم، ورغم حديث الاتحاد الدولي لكرة القدم باستمرار عن فصل كرة القدم عن السياسة، إلّا أن هذا يبدو مستحيلًا في العموم، وعندما تنجح "الفيفا" داخل الملاعب، يبدو ذلك مستحيلًا خارجها.

أصبح المنتخب أداةً سياسية في انتخابات وصفتها الصحيفة بـ"القبيحة"، فيما كان من المفروض أن يكون المنتخب جامعًا لكل البرازيليين

وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريرًا عن التوتر السياسي الذي سبق ورافق الانتخابات الرئاسية في البرازيل والتي جرت الشهر الماضي، وتأثيراتها على خيارات تشجيع المنتخب البرازيلي، انطلاقًا من خيارات لاعبي المنتخب السياسية واصطفافهم مع أحد المعسكرين المتنافسين، فقد أصبح المنتخب أداةً سياسية في انتخابات وصفتها الصحيفة بـ"القبيحة"، فيما كان من المفترض أن يكون المنتخب جامعًا لكل البرازيليين.

تقول الصحيفة الأمريكية، عندما كانت الحملة الانتخابية الرئاسية على أشدها وفي ظل تقارب نتائج مراكز الاستطلاع، أعلن نجم المنتخب البرازيلي نيمار مساندته للرئيس المنتهية ولايته جايير بولسونارو، وتعهد بإهدائه أول أهدافه في المونديال المقام في قطر. تشير "نيويورك تايمز" إلى أن الرئيس اليميني المتطرف قام يوم إجراء الانتخابات، بارتداء سترة واقية تخوفًا من وقوع هجوم عليه، وفوق السترة القميص الأصفر الذي يعتبر أيقونة المنتخب الوطني البرازيلي.

وفي الأيام التي تلت خسارته للانتخابات، تجمع مئات الآلاف من أنصاره خارج القواعد العسكرية ودعوا الجيش إلى التدخل، وكان "المتظاهرون بحرًا من اللون الأصفر، فقد ارتدى الآلاف من المتظاهرين  قمصان المنتخب البرازيلي"، بحسب وصف الصحفية.

في "الواقع إن قِلة من البلدان ربطت بين هويتها الوطنية وفريقها الوطني لكرة القدم مثل البرازيل،  الدولة الأكثر نجاحًا في تاريخ كأس العالم، والساعية إلى الحصول على لقبها السادس هذا الشهر في قطر"، وأن "هناك عدد قليل من البلدان التي تتصارع في مثل هذه العلاقة المعقدة مع منتخبها الوطني"، توضح الصحيفة.

getty

وتتحدث "نيويورك تايمز" عن أن القميص أصبح بيانًا سياسيًا، والنجم الكبير في البلاد يطلق تصريحات سياسية صريحة، أيّ نيمار، وبعض المشجعين يقولون على المدرب بأنه شيوعي، والكثيرون ابتعدوا عن الفريق الذي كان لفترة طويلة مصدرًا للفخر الوطني.

"نحن منقسمون"، هكذا يشرح مالك متجر لبيع القمصان الرياضية في وسط مدينة ريو دي جانيرو ما يحدث في البرازيل. مشيرًا إلى أن المبيعات انخفضت بنحو 20% مقارنةً بكأس العالم السابقة في روسيا عام 2018، ويضيف "أن الكثير من الناس الذين يأتون إلى هنا لا يريدون قميص نيمار، لأنه أيد بولسونارو، هذا لم يحدث من قبل أبدًا".

ومع ذلك، في الوقت نفسه فإن منتخب البرازيل الشهير بـ"السيليساو" ربما يشكل أيضًا المؤسسة البرازيلية الوحيدة القادرة على توحيد هذه الأمة التي تعاني من انقسامات عميقة، بطبيعة الحال إذا انتصر في المونديال. ومساره في كأس العالم حتى الآن هو مسار واعد.

بعد المباراة الأولى ضد صربيا أصيبت الأمة بالنشوة، ريتشارليسون البالغ من العمر 25 عامًا، سجل ثنائية البرازيل بما في ذلك "تسديدة مقصية" التي كانت من بين أكثر الأهداف إثارة في البطولة. ومع ذلك، بعد المباراة تركز جزء من الحديث المتعلق بريتشارليسون عن توجهاته اليسارية، فضلًا عن دعمه العلني للقاحات "كوفيد –19"، التي انتقدها بولسونارو ولم يذكر حتى الآن ما إذا كان قد تلقاه.

getty

يتحدث المؤرخ الرياضي البرازيلي سيلسو أونزيلتيه، عن أن ما يحصل الآن ليس أمرًا مستجدًا في البرازيل وحصل سابقًا. مذكرًا في عام 1970، عندما قاد بيليه البرازيل إلى الفوز بكأس العالم، وأعرب بعض نخب البرازيل عن خشيتهم من أن يؤدي الفوز باللقب إلى تعزيز الدكتاتورية العسكرية الوحشية التي حكمت البلاد  في ذلك الوقت، وفي عام 1982 تلقى لاعب خط الوسط البارز سقراط، التأييد والانتقادات لكونه معارضًا صريحًا للديكتاتورية، ويشير أونزيلتيه إلى أن المكانة البارزة التي يحظى بها المنتخب الوطني في البرازيل كانت في بعض الأحيان سببًا في انهماكه في السياسة، ولكن لم يحدث قط كما يحدث الآن"، ويضيف "إذا كان لبلادنا وجه، فهذا الوجه هو المنتخب الوطني البرازيلي لكرة القدم"، ومتابعًا "كانت هناك لحظات مشابهة لما نعيشه الآن، لكن قميص الفريق البرازيلي نفسه لم يتم الاستيلاء عليه كما يحدث في الآونة الأخيرة".

تضخمت مسألة تسييس المنتخب البرازيلي هذا العام بفعل تزامن موعد بطولة كأس العالم لكرة القدم مع موعد الانتخابات مباشرةً، حيث تُقام البطولة عادةً في حزيران/ يونيو أو تموز/يوليو، ولكن تم نقلها إلى الشتاء، ونتيجة لذلك فقد ظلت السياسة تدور في مختلف أنحاء البرازيل لأشهر، وانجر الفريق الوطني إلى الجدال الحاصل.

ويرجع ذلك بحسب "نيويورك تايمز" إلى أن قميص الفريق البرازيلي أصبح الزي الرسمي لمؤيدي بولسونارو، فقد اعتمد الناخبون اليمينيون القميص وعلم البرازيل والنشيد الوطني للبلاد كرموز وطنية لحركتهم القومية، وكانت تجمعات بولسونارو مليئة بالقمصان الصفراء، وشجع بولسونارو أنصاره على ارتداء هذه القمصان عند الذهاب إلى صناديق الاقتراع، وعندما خسر الانتخابات، أغلق أنصاره الطرق السريعة واحتجوا خارج القواعد العسكرية، وكان العديد منهم يرتدون اللون الأصفر الذي يمثل الفريق الوطني.

وفي إحدى اللقطات البارزة، حاول أحد مؤيدي بولسونارو الذي كان يسد الطريق السريع، منع شاحنة بمقطورة من المرور، وتعلق بالجزء الأمامي من الشاحنة وهي تسرع في الطريق السريع، وكان يرتدي قميصًا أصفرًا، وسرعان ما انتشر المقطع المصور على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي.

لقد أصبح الفريق الوطني بذاته متورطًا في العملية الانتخابية، وقبل الانتخابات مباشرةً، أعلن العديد من اللاعبين، بمن فيهم نيمار تأييدهم لبولسونارو، فقد ظهر نيمار في مقطع مصور وهو يرقص على أنغام أغنية تدعو للتصويت لبولسونارو، ثم أجرى معه الرئيس البرازيلي مقابلة مباشرة، وقال لبولسونارو إن "أهمية هذه الانتخابات هي أن البرازيل على المحك وطننا وحريتنا وعائلاتنا، الله لديه خطة كبيرة لنا".

سرعان ما أدى هذا إلى تحويل نجم كرة القدم الكبير في البرازيل إلى شخصية منبوذة من قبل اليسار، كما دفع بعض البرازيليين إلى القيام بما لا يمكن تصوره في البلد اللاتيني، وهو الإعلان عن رفضهم دعم فريقهم الوطني لكرة القدم. يقول المعلق الرياضي ومهاجم منتخب البرازيل سابقًا والتر كاساغراندي "لن أُصعد ضد المنتخب، ولكني لن أتفاعل معهم عندما يكون نيمار في الملعب، لماذا؟ لأنني أحب بلدي".

الرئيس المنتخب والمرشح اليساري لويز ايناسيو لولا دا سيلفا، الذي فاز في الانتخابات، ادعى دون أن يقدم دليل، بأن نيمار أعطى تأييده لبولسونارو، لأنه وافق على عدم استهدافه بتهمة التهرب الضريبي، وهو الأمر الذي اتهم به منذ سنوات، وقال لولا في بث صوتي على شبكة الإنترنت إنه "يخشى أنني إذا فزت فسوف أكشف ديونه الضريبية". وبعد فوز لولا في الانتخابات، هتف أنصاره "يا نيمار! ستضطر للتصريح".

في المقابل، نجد لدى اليمين البرازيلي، شريرهم الخاص بهم في المنتخب، وهو المدرب تيتي، الذي انتقد اختيار القميص الأصفر كرمز سياسي، وقال إنه لن يزور القصر الرئاسي في حالة الفوز بكأس العالم، بغض النظر عمن هو الرئيس. وهو ما دفع أحد مشجعي المنتخب للقول إن "تيتي من اليسار، لذلك لم نرغب في دعم الفريق بسببه".

getty

قبل نهائيات كأس العالم، شجع لولا المشجعين وغيرهم من البرازيليين على ارتداء القميص الأصفر، واستعادته كرمز للكرامة الوطنية بدلًا من الحزبية. لكن العديد من البرازيليين لا يزالون غير مرتاحين لقميص المنتخب البرازيلي، وأثناء عطلة نهاية الأسبوع خلال افتتاحية كأس العالم، نظمت حانة في وسط مدينة ريو ليلة لمؤيدي اليسار لحثهم على ارتداء القمصان الصفراء، وبعض الذي حضروا ارتدوا القميص الأصفر والبعض كتب اسم "لولا" على القمصان.

وبدلًا من ذلك، أصبح المشهد الأكثر شيوعًا في شوارع ريو هو القميص البديل للمنتخب البرازيلي باللون الأزرق. ويقول بائع لقمصان المنتخب البرازيلي "إنه باع القميص الأزرق للمرة الأولى هذا العام، ونفذ قبل المباراة الأولى".

أمّا المشجعة حوسي ليما (46 عامًا) والتي كانت تشتري قميصًا باللون الأزرق لها ولابنتها، فقد قالت "آمل أن نتمكن من العودة إلى استخدام اللونين الأصفر والأخضر"، مستدركةً "اليوم، الأكيد هو الأزرق".

تكشف "نيويورك تايمز" عن أن السياسة البرازيلية تمكنت من الوصول إلى قطر أيضًا، ففي أحد المقاطع المصورة ظهر إدواردو نجل بولسونارو، وهو عضو في الكونغرس البرازيلي، خلال قيامه بتوزيع "ناقلة بيانات/ يو إس بي" تحتوي على معلومات باللغة الإنجليزية حول ما أسماه الانتخابات غير العادلة، بحسب المصدر. كما أظهرت مقاطع مصورة أخرى مشجعين برازيليين في مباريات كأس العالم، وهم يهتفون "لولا مجرم".

يختتم التقرير حديثه بمشهد من مدينة ريو معقل داعي لولا، مشيرًا إلى أن غالبية البرازيليين تتجه نحو دعم المنتخب الوطني بكل الأحوال، مستشهدًا بمقابلة مع الطالبة في علم الأحياء مار أوليمبيو والتي كانت ترتدي القميص الأزرق، في إشارةٍ لكونها من داعمي لولا، وقالت "سأدعم بلادي، من أجل سعادة شعبي"، وعند سؤالها عن السياسة وتشابكها مع المنتخب، أجابت "يا رجل، كرة القدم يجب ألّا يكون لها علاقة بذلك".