06-سبتمبر-2019

معتوق بوراوي/ ليبيا

  • النص جزء من كتاب يصدر قريبًا بعنوان "انتحار بكوب زائد من الماء".

لن يصدق أحد أن خروجنا في تلك الليلة من فندق كوشتاديسي كان بعيدًا عن عيون الجندرمة التركية. البريء الذي لم يقرأ رواية واحدة من أدب الرعب القوطي لن يصدق أن أنفاس المخبرين تملأ الليل، وتثقل ملوحة البحر. كنت أشعر بانكسار. لم أقل شيئًا لـ(..) عن رحلة "البلم". كانت تعتقد أن السفر إلى أثينا سيكون بالطائرة.

ازداد جزعي لأنني أخفيت عنها أسرار الرحلة المائية. رحلة أبدية مطوقة بغموض الهروب من الحروب التي تستعر في المنطقة الملعونة. لم أخف أو أتراجع عن قراري. أعمدة الإنارة البرتقالية تصدر ضوءًا قويًا. يمكن أن تدفع بإحدى الدوريات الأمنية التركية لاكتشاف الوجهة التي نقصدها في الهزيع الأخير من الليل.

فهم الشاب الكردي أنني أفكر بالخطوة التالية بعد الصعود إلى الباص الصغير. قال ضاحكًا: -عشر دقائق، ونكون في "البلم". ما إن تعلق سترة الإنقاذ على صدرك حتى نكون قد وصلنا إلى جزيرة كيوس.

لم أشعر برغبة جارحة في الاحتجاج. في لحظة فارقة لم يعد مهمًا الاختيار بين جزيرة كيوس، أو جزيرة ساموس. الذريعة الفيثاغورثية التي تمنطقت بها في دفاعي عن جزيرة فيثاغورث سقطت في الحلم. كان الضوء البرتقالي القوي يساعدني على التفكير بطريقة مجنونة حتى إنني رسمت من خلاله نهايات الرحلة قبل الصعود إلى الزورق. لم أحتج إلى أكثر من ثلاث دقائق لأصل إلى الجزيرة. قال أبو يعرب إن جهاز GPS المرتبط بالأقمار الصناعية سيرشدنا إلى وجهتنا، ولن نضّل الجزيرة.

وصل الباص الصغير عند منتجع سياحي تركي. كانت الأضواء تكشف قسمًا كبيرًا من اليخوت المتوضعة عند الشاطئ. نزلنا بسرعة كبيرة وبأيدينا سترات النجاة البرتقالية، وإطارات السيارات السوداء المنفوخة بتأنٍ كبير. كان هناك شخص لكل مائة متر تقريبًا يدل على المنعرج التالي. عبر موظفو المنتجع التركي من أمامنا. موظفون أشباح بسترات موحدة لم ينبسوا بكلمة واحدة. كانوا يعرفون كل شيء على ما يبدو. قال ناصيف متكهنًا إن هذا أول زورق مطاطي ينطلق من هذه "النقطة" التي لم يصل إليها المهربون. يمكن أن نقول إنها نقطة عذراء بالكامل. لم يستبيحونها كما فعلوا مع الشواطئ التركية الأخرى. وها نحن ننتهكها. نقوم بما يجب القيام به حين نهدي أرواحنا للموت.

لم تنهض أسوار بيزنطة منذ أن انهارت آخر مرة. تساءلت بحذر والخوف يتسرب إلى أعماقي، وأنا أقطع مسافة أول مائة متر بين شخصين غامضين من عصابة التهريب التي تتولى تأمين وصولنا الخاطف لـ"البلم": -لمَ تحتاج المدن إلى أسوار مغلولة حتى تعلن قيامتها، وتعلن أنها تتجدد؟ من يستطيع أن يعثر على سور طويل في حلمه يكون من الشعراء المقاتلين الأفذاذ؟ حتى لو ترك حبيبته التي منحته من جسدها كل فاكهة ممنوعة أن تمشي عليه حافية حين تهوى وتحب في غيابه. قد يبدو أمرًا مشروعًا تتيحه الحياة نفسها حين تتجدد في عروق أخرى بدلًا من الاستسلام للعنة الغياب الاختياري.

اجتزت المائة الثانية بين شخصين آخرين من نفس العصابة. كانوا قساة، كأنهم لم يتكيّفوا مع وجودنا. الشمعة الأخيرة التي أوقدتها وراء السور تغطي بلهبها على القذارة التي يمكن أن يقوم بها هؤلاء الأشخاص الخمسة المرصوفون في نهاية الطريق. يمكنهم اختطاف "النفر" الذي يرتكب هفوة صغيرة. ولن يعرف أحد مصيره، إن قرّروا معاقبته لسبب ما. بقي أمامي الشخص الأخير الذي يدقق بالأمتعة. كان يرفع حقائبنا بيده اليسرى. من تكون حقيبته ثقيلة يلقي بها أرضًا، ويشير له برأسه ليعبر باتجاه جسر خشبي طويل. الممر الأخير قبل السقوط في الزورق المطاطي المربوط تحت الأعمدة الخشبية القوية.

عبرت بسلام. كانت حقيبتي خفيفة جدًا. لم أضع بها شيئًا منذ أن قفزت من غرفة السطح في مخيم اليرموك، وتدحرجت أرضًا، واصطدمت بالعراء. لم أحمل شيئًا ثقيلًا. اعتدت أن أكون خفيفًا في حياتي، وأعتقد أنني سأكون كذلك في مماتي. قد أتعرض لمطاردة في أي لحظة. لقد تعلمت من دروس التخفي في الشعر كيف أصبح روحًا خفيفًا في كل شيء. طريقة أكلي. كتابتي. نومي على الأسوار حافيًا بين فينة وأخرى. تشممي لرائحة الكلاب الشرسة التي تختار ربطات العنق الحمراء في مطارداتها الجماعية لفرائسها. عرفت في هذه اللحظة أن رائحة الدم الزنخ الذي يعلق بين أسنانها هي من فاحت في غرفة الشاب الكردي الذي لم أسأله عن اسمه. لم يكن مذنبًا. شاءت الأقدار أن تتفتح الشمعة، وتكشف عن أوراق لم تكن تعني (..) في مقتها لمجازاتي. سقط اللهب عن الجسر الخشبي الطويل. سقطت معه أخلاق رحلة التيه التي عشتها، وعليّ أن أدافع عن مجازاتي في الموت وفي الحياة.

لم يتبدل يومًا صوت المذيع الذي يقدم إعلان الكلية الجوية في التلفزيونات الرسمية العربية. تبدلت الطائرات الحربية التي تخرق جدار الصوت فوق الأسوار، ولم يتبدل صوت المذيع. صار هناك أجيال متعاقبة منه، وكل جيل تزداد ضراوته وقدراته على تهديم هذه الأسوار كلما عنَّ لها أن تنتصب على أطراف المدن العربية الكبرى التي كانت تضمحل واحدة تلو الأخرى كما لو أن استراتيجية الاضمحلال نالت منها تمامًا.

كان طعم ماء البحر يلسع الشفاه في هذا الصباح الماكر البعيد. في النقطة التي لن نعرف اسمها إطلاقًا.

كان الجسر الخشبي الطويل يشكل خاتمة للرحلة قبل الانتحار الجماعي. لن أشبّه سقوطي في الزورق بالانتحار الطوعي. كنّا 38 نفرًا وستة أطفال. من أين جاؤوا؟ من أين جئنا؟ لا أحد يمكنه أن يجيب. يا إلهي: -الشاب العراقي السمين المتذمر الذي رأيته في إزمير يجر نفسه متهالكًا، ومعه ولد صغير في حضنه وبجانبه زوجته. سقطت المرأة الشابة أولًا في الزورق. طيّر ابنه في الهواء عاليًا قبل أن يستقر في حضنها. كان يشتم الساسة العراقيين بصوت خفيض. سقط بدوره، واستند بثقله على حافة الزورق المطاطي الذي صار يهتز بقوة مع سقوط كل "نفر" فيه. صرخ عليه أبو يعرب: -انزل للقاع قبل أن ينقلب بنا. نزل الشاب صاغرًا، ولم يُبدِ عِندًا متوقعًا منه.

وصلت إلى نهاية الجسر الخشبي الطويل. كان يرتفع مترًا ونصف من سطح الزورق المطاطي. وقفت متأملًا الضوء في خلفية المنتجع السياحي. سقطت مغمضًا عيني. نسيت الاتساع الذي كان يميزهما. لم تكن الشمعة التي تقف في الظل محكومة بهذا الاتساع فيما مضى. بقيت مغمضًا وأنا أتحسس البدن اللزج. كان كل شيء من حولي يهتز بصخب، ويغيّر من اللهب الذي يعاند في الانطفاء. لم يلمحه أحد سواي. صراخ النسوة والأطفال غطى على ملوحة ماء البحر، واختلط بصراخ أبو يعرب الذي حرَّك الموتور بقوة في انتظار "سقوط" بقية المسافرين وحصوله على إشارة الانطلاق من الشخص الخامس المطل على "البلم".

ترَّنح الزورق المطاطي ودار حول نفسه دورتين، فشهقت النسوة من الرعب. كانت الأرضية مغطاة بلوح من الخشب حتى لا ينكسر ظهر الزورق في المنتصف. خطة يتبعها المهربون لتمرير الزوارق الرخيصة غير المهيأة لحمل هذا العدد. مع اللوح الخشبي يمكن المجازفة فترة أطول بالبقاء في المياه حتى يتسنى للركاب الوصول، إن لم يغدر بهم الموتور أو الجسم اللزج الكريه غير القابل لأن يطلق ظلالًا يمكنها أن تلتصق بالظلال الآدمية التي يحملها حين يبدأ بالانشطار إلى نصفين.

مرَّت الدقائق الأولى صعبة وقاسية. بدا أن لكل "نفرٍ" عالمًا خاصًا مستقلًا تمامًا عن الآخر. سترات الإنقاذ البرتقالية لم تفعل شيئًا. وسَّعت قليلًا من خوف الجميع، وهم يترَّقبون اللحظة التي سيمر فيها كل هذا الماء المملح من تحت البدن المخاطي الذي يحتمل أن يكون له عين وحش كاسر يمكن القضاء عليه بغرزة دبوس صغير.

وقف الشاب العراقي السمين محتجًا على بقائه في قاع الزورق، وتكوّم النساء فوق جثته الضخمة. اهتز القارب. صرخ أبو يعرب فيه، وألزمه البقاء في مكانه: -اجلس أو ألقي بك للأسماك. أتفهم؟ انس أمر الجلوس على الحافة حتى تصل إلى الجزيرة، وافعل ما يحلو لك هناك. اجلس أو أتبوَّل عليك.

جلس علاوي صاغرًا، وهو يزفر بقوة. كان جسم الزورق مستقيمًا، ويلامس سطح الماء باتزان. لم يكن هناك بصيص ضوء في العتمة الكاملة. ضوء الهاتف النقّال الذي يمسك به معاون أبو يعرب لقراءة إحداثيات موقع التموضع العالمي عبر الأقمار الصناعية هو الشيء الوحيد الذي يمكن رؤيته من قبلنا. مزود خدمة الأنترنت الخاص به مرتبط بشبكة الثريا التي تتصل بقمر صناعي واحد ثابت وقمرين احتياطين لضمان الخدمة، فلا أعمدة تقوية للشبكات العادية في البحر.

أشعلت الشمعة الأخيرة في الرحلة. لم يرَ اللهب أحد سواي. كنت أتململ من طول السيرة التي شارفت على الانتهاء دون قول شيء جوهري فيها. كان خفوت اللهب مسألة في غاية الأهمية صنعت للزورق المطاطي عينًا في المقدمة. لا تقدح شررًا مثل العيون الشريرة التي يُقرأ عنها في الكتب. عين متململة تلتهم أربعين راكب في أقل من دقيقة.

السؤال الوحيد الذي يلف العتمة، ويصطدم بأذني هو ساعة الوصول. قطع الزورق من وقت الرحلة حوالي ساعتين ونصف، ولم تظهر الجزيرة الموعودة. إحداثيات GPS تؤكد إن نقطة الوصول النهائية هي جزيرة ساموس، والوقت المتبقي لبلوغها ليس أقل من ساعة إضافية. أحسست بقليل من الفرح الداخلي، والكثير من الخوف، وأنا أسمع أبو يعرب يعلن اسم الجزيرة: سامووووووووووس!

تراءت لي (..) في مقدمة الزورق. بدت عاتبة، لأنها لم تعرف بأمر الرحلة البحرية. ابتسمت، وهمَّمت بأن أتحرك صوبها. لم أشعر بساقي اليمنى. كانت متيبسة تمامًا من قعود شاب حلبي أشقر عليها في أرضية الزورق. أردت أن أطيل من مدّة ساقيَّ قليلًا حتى أتمكن من الوصول إلى شبحها. ابتسمت. لم يرَ الابتسامة في العتمة الحالكة أحد من الركاب العالقين في الممر البحري.

شعرت بالماء يتسرب إلى قاع الزورق ويغمر بنطالي. بدأت المقدمة المطاطية البيضاوية ترتفع قليلًا. خامرني شعور بخطر داهم. سينشطر الزورق نصفين ويغرق الجميع خلال أقل من 30 دقيقة إن لم تحدث معجزة، ونصل هدفنا خلال 20 دقيقة على أبعد تقدير. لم تختفِ البسملات والآيات القرآنية من خط الرحلة المميتة. كان الزورق يرتطم بالموج الذي بدأ بالارتفاع. الماء المالح المتهور بدأ يدخل فمي، ويغير من طبيعته المسالمة. صار وحشًا بحريًا لزجًا في دقيقتين. شعرت بلهب الشمعة يسخر مني ويتململ في مقدمة الزورق حتى يغطي على شبح (..). كان كوب الماء المغلق قد انتشلني من طعم الملح. نزعت الغطاء القصديري عنه وشربت جرعتين صغيرتين منه. أحسّست ببعض الارتياح. كانت العتمة قد فعلت فعلها حين غطّت على أنانيتي. لم أقل شيئًا عن عين الوحش التي تتصدر المقدمة. انطفأت الشمعة، وانطفأ الهاتف النقّال الوحيد المضاء على ظهر الزورق. سقطت شبكة الثريا في أوحال العداوات البذيئة للبشر. انطفأ الموتور بعد أن خسر كمية البنزين التي زوّد بها في دورانه على غير هدى. طلب أبو يعرب من الجميع الهدوء حتى يملأ خزان الوقود من الزجاجة الاحتياطية الإضافية.

أعاد تشغيل الموتور. لاح ضوء في الأفق. هلل الشاب الذي يجلس على مقدمة الزورق: -الجزيرة يا شباب. لسنا بعيدين عنها. نهض البعض متطلعًا، فاختل توازن الزورق. صرخ أبو يعرب صرخة قوية أجفلت الجميع، وهو يطلب البقاء في الأمكنة. استعاد الزورق توازنه حين سطع ضوء كشّاف قوي. كانت طائرة هليكوبتر عسكرية يونانية تحلق في السماء على علو منخفض.

غلاف الكتاب

زغردت بعض النسوة متآخيات مع بعضهن البعض. عاش الركاب اللحظات الأخيرة على وقع المأساة التي حلَّت بالشمعة الأخيرة. كل تأوه صدر عنهم كان يكتم المأساة التي عشتها معهم على ظهر الزورق المطاطي الخبيث. رأيت وجهي في الوجوه التي تتعذب في العتمة الكاملة. لم يكن ممكنًا رؤيتها في الحالات العادية التي يشخص فيها البشر نحو بعضهم البعض، لكنني رأيتها وكنت خائفًا مثلهم، أو مثل بعضهم على الأقل. الألم حين يعشش في الصدر، ولا يفارق صاحبه يقدم أدلة على إذعان بشري عديم اللون وفيه لزوجة شريرة. كان اللهب يقدم وصفاته الأكثر جشعاً في تقديمه للشمعة الأخيرة التي أحملها في عقلي. لم تضئ المسار كما أردت، حتى أكمل دربي دون منغصات، أو كوابيس.

رنَّ المسنجر الأزرق البعيد في المخيلة الوحيدة الباقية على ظهر الزورق. كانت (..) تناديني من سريرها. استيقظت قبل ساعة وكانت تقرأ "ساعات الكسل" للورد بايرون بشغف. قالت إن فنجان القهوة يتربع على سرّتها ويدفئها. ضحكت للشرك العاطفي الحار الذي يرّن في وقت مستقطع من الموت. فهمت إن العتمة التي تراوغني تترك شيئًا من حصافة البرق على ذكريات تراكمت في الشهور الماضية عبر حنكة المسنجر اليتيمة التي بقيت لي من فضاء السور الشامي العتيق. لم أسأم من هذا الكائن الذي يسلب عذرية الوقت كما أسأم منه الآن. لم أذكر شيئًا عن خجلي وخوفي. كان الوحش قد استيقظ في مقدمة القارب، فانطفأت الشمعة من الارتياب الذي حل بها. اختل توازن الزورق المطاطي، فوقعت في الماء. لم يكن ممكنًا متابعتها بعيون مفتوحة. العتمة لا تسمح برنين القطع الشمعية التي تتساقط كمطر من قطرتين عاتيتين.

كان الضوء القوي المنبعث من كشّاف طائرة الهليكوبتر اليونانية قد أوقع الفزع في قلوب بعض الركاب. تسرَّع الشاب الكردي الأسمر اللطيف، واقترح تمزيق الزورق المطاطي حتى لا يقوم خفر السواحل اليوناني بقطره ثانية إلى الشواطئ التركية. شتمه أبو يعرب، واقترح أن يثقبه ويرميه لوحده للأسماك. ضحك البعض من الخوف، وهمهم البعض الآخر بآيات قرآنية. كانت الوجوه قد ظهرت بتأثير الضوء. شاخ بعضها بسرعة أكبر مما هو متوقع. ظهرت التغضنات تحت عيني الشاب الكردي كأنها غيمات سوداء مكفهرة، ومهدي الصغير بدا أكبر من سنه بعقدين أو ثلاثة.

ظللت ممسكًا بكوب الماء من الخوف. تلاشت أسطورة غدة الكظر المنتزعة من جسمي بلمح البصر. الغدة المسؤولة عن إفراز انزيم الخوف. غطَّيته بقطعة القصدير حتى لا يتسرب إليه الماء المالح. الشيء الوحيد الذي كان يتبختر بيننا على سطح الزورق المطاطي هو اللغة غير المفهومة التي كنا نتكلم بها فيما بيننا. مأساة الشاب الكردي المركبة لم تكن تكمن في الكلمات العربية المكسّرة التي تتزاحم في فمه، وتخرج بصعوبة كبيرة. كان يبدو مخمورًا حين يشدد على مخارج بعض الحروف. لم يكن بحاجة إليها، وهو يحدث قطيعة معها بنزوله المباغت من فوق الجبال. لم يقترب أكثر من الأفكار اللجوجة التي يناصبها العداء. كانت همومه تنحصر بمراقبة الكأس التي أشدُّ عليها بأصابعي. ليس سهلًا إنشاء تدوينة لغوية عنها. كل تشكيل صوتي يقوم على طرق الزجاج يقدم حلًا سحريًا لي، وهو ينزل بحججه من أعالي الجبال، ليصبح رجلًا مدينيًا كاملًا بأقل من أربع ساعات.

ليس البحر شكلًا للدهشة التي يخسرها الكبار في تنصيب افتراءاتهم. ربما يرتجف قلبي، وأنا أسقط من الزورق في الماء. لم ينتبه لسقوطي أحد. الموج سيبتلعني في أقل من خمس دقائق. لن يكون هناك أمل بالصراخ الذي بدأته. بقيت ممسكاً بكوب الماء ومحدقًا فيه. أردت أن أضغط غطاء القصدير بإحكام حتى لا يتسرب الماء المالح إليه، فيتحول إلى علقم أزلي يحاكي شمعتي بعد موتها النهائي فوق سور دمشق.

تضاءل السور بين الأمواج. لم يشعر أحد بسقوطي في الماء. لم يسمع أحد صراخي. كان هدير طائرة الهليكوبتر اليونانية يصم الآذان، ويمتزج بآخر المقاطع الصوتية الشعرية التي أترنم بها في الماء وحيداً في عتمة مستفحلة:

النجمة تنطفئ

عندما تهوي في الليل

وتترسب في القاع

كحُمَّى حصاة

ترتعش في البحر وحيدة

بفم بنفسجي غزيز فيه صوتك.

اقرأ/ي أيضًا:

الطريق إلى برلين

لاجئون على الطريق