28-مايو-2020

نادية الكعبي/ تونس

أخبرتني النافذة أنّ القتيل سأل القاتل:

- لماذا قتلتني؟

قال القاتل:

- لأنّك تركت النافذة مفتوحة.

 وأنا بدوري سأخبركم عنها، فنافذتي أيها السّادة الكرام تطلّ على الشارع الشرقي من جهة البيت، في الجهة المقابلة لمكتبي الخشبي. اخترت موقعها بعناية بالغة كي تغسل الشمس وجهها وتغسلني عند كلّ شروق، وإن غابت، يؤنسنا القمر. لذلك نافذتي مشرقة كل صباح، وباهية كل مساء، يعبرها هبوب الرياح الباردة في فصل الشتاء، وتصيبها الرياح الحارة بذرّات التراب في فصل الصيف، فتحتمل كلّ ذلك لأجلي.

لقد اخترت لها أجمل الغرف وأحبّها إلى قلبي، غرفة المكتبة، وهي النافذة الوحيدة الموجودة في جدار مكتبي الذي يقع في الطابق الثاني من البيت، وحرصت بأن تكون وحيدة كي لا تدّب الغيرة بينها وبين نافذة أخرى، فالأحبة لا يقبلون الشركاء، ونافذتي كغيرها من بنات جنسها غيورة بل شديدة الغيرة، إنها طبيعة الأنثى، ومن لا يفهم طبيعة الأنثى وغيرتها فهو أحمق.

نافذتي جميلة، شفافة وطويلة، وراحتي أن أجلس بالقرب منها، وأن ألصق جسدي النحيل على زجاجها المصقول.

*

 

قد تظنون بي الجنون، أو تظنون ذلك بنافذتي، لا بأس، قولوا ما شئتم، ولن أبرّر ولن أفسّر لكم شيئًا، فأنا أعشق صمتي كما أعشق نافذتي، وفي العشق يسقط الكلام، لكنّي أنقل لكم المشهد كاملًا لتكونوا شهودًا علينا، فها أنا أقف خلف النافذة المفتوحة في هذا الصباح الباكر، ترتجف الكلمات في فمي، تيار هواء بارد يلسعني في وجهي لحظة اقترابي منها، قدماي ويداي باردتان، يرتجف جسدي، فأضم يداي على بعضهما، أفركهما معًا، علّني أشعر بالدفء.

 أقترب منها أكثر، ألتصق بها، ألمس زجاجها، فأشعر كم هو بارد وجارح. أسدل الستارة عليها، وأقف في المنتصف بينها والستارة، مستند بجزء من جذعي على إحدى زواياها، لعلني أمنحها شيئًا من دفء جسدي وأمان روحي. نظلّ هكذا في حالة صمت، نراقب الشارع، نعم، فكل ما نفعله أنّنا نراقب الشارع، فأنا ونافذتي مراقبان جيدان من حيث لا يرانا أحد، فهي عيناي اللتان تريان كل شيء وأنا دفئها وحبيبها، ويعجبها أن تكون ملكًا لي، ويعجبني أن أكون ملكًا لها.

هكذا حدث الأمر دون اتفاق، دون تخطيط، ودون أن نحدد شرطًا أو نبرم عقدًا أو حتّى نتحدث في الأمر، وكما هو غير متّفق عليه فهي من تراقب الشارع وأنا من يستمع للحكاية ويكتبها، وأعلم وتعلم أنّ ألف عين ستقرأ ما قالت وما كتبت.

هي أنثاي الجميلة، تكتفي منّي بأن أمنحها أذني، ذلك كل ما تحتاجه، وقد فعلت وأعطيتها ما أرادت، لكن نافذتي أو أنثاي ليست ماكرة كحبيبة فان جوخ ولست مجنونًا مثله، فأنا ونافذتي في قمة العقل والنضج والاتزان، وسأعرّفكم عليها لأنكم قرّاء محترمون، ونافذتي تعرفكم جيدًا، خصوصًا حينما أحضركم هنا واقرأ لكم بعض نصوصي، قد تتعجبون وتنكرون ذلك، لكنّ هذا ما يحدث كلّ مساء.

أنتم هنا معنا في نفس المشهد، كاتب وقرّاء ونافذة، وتفاصيل حكاية وخيط واحد يشدّنا جميعًا دون أن ينقطع، هو خيط السرد، فنافذتي تسرق الحكايات من أفواهكم، ومن خطوات سيركم عبر هذا الشارع الغريب، حتى وأنتم لا تقولون شيئًا، وتزرعها في قلبي، ثمّ أحضركم للاستماع إليها، فتصفقون وتهللون، وقد يبكي بعضكم من فرط التأثّر لأنّ الحكاية لامست شيئًا في قلبه، إلى درجة أن أحدهم أرسل إليّ قائلًا أنت تكتبني، أنت تكتب كلّ ما أشعر به، فأتعجب كما تتعجب نافذتي أنكم لم تكتشفوا أن الحكاية حكايتكم ولسنا سوى لصوص سرقناها منكم وأعدنا تدويرها، ثم ألبسناها ثوبًا جديدًا.

*

 

 لا بأس سأخبركم عن نافذتي، لأنّه يسعدني ويعجبني الحديث عنها، ولا يحلو الكلام في فمي إلا حينما أنطق اسمها العائد في ملكيته لي بكل أنانية العشّاق وجنونهم، متلذذًّا بحروف اسمها حرفًا حرفًا (ن، ا ف، ذ، ت، ي).

ذات يوم وبينما كنت أتأملها وأمسح بيدي على زجاجها الناعم، لامست أصابعي قطرات من الدمع تتساقط من عيونها، فنافذتي كلها عيون، وهي عيني وأناديها حينما أتودد إليها يا عيني، يا نافذتي، يا حبيبتي، أحاول مسح الدمع المتساقط كقطرات ندى على زجاجها اللامع المطلّ على الشارع، لكنّي أعجز عن ذلك، فدموع النافذة صعبة التلاشي، أمسحها وسرعان ما تعود، وكم أخبرتني أن أكف عن محاولة تجفيف دمعها قائلة لي:

- دعني يا صديقي ويا حبيبي، دع دمعي، فالدمع يغسلني، ولا ترهق أصابعك ولا تتعب نفسك.

لكني لا أستجيب ولا أمتثل، فأستمر بتمرير أصابعي على جسدها الزجاجي اللدن كعازف تستهويه لعبة الأصابع، تنتشي نافذتي وأنا أمسح زجاجها حتى أكاد أهلكها من فرط المسح، ألصق وجهي بوجهها الزجاجي، أخشى على عيونها من سيل الدمع الجاري على خدها، أسألها وأنا أهمس لها:

- ماذا بك يا عيني؟

أنتظر جوابها ولا تقول شيئًا، فللنوافذ كبرياء ولا تشكو ضيقها وضجرها، ولا تبوح بألمها، ألتصق بها أكثر، أفرش كلتا يديّ على زجاجها محاولًا احتضانها لعلّها تبوح، فلا تبوح، يجرحني صمتها، يخدش روحي ألم روحها الذي لا يدركه سواي.  

*

 

 ما زلتم هنا أليس كذلك، وربما تتساءلون وأنتم تظنون بي الجنون أو العبط، أليست نافذتك المجنونة أيها المجنون ككل النوافذ الأخرى؟ مجرّد قطعة زجاجية شفّافة، كلّ مهمتها في الحياة أن تسدّ ذلك الفراغ في جدار عمرك المتصدّع، تفتحها وتغلقها متى شئت، أليست مجرد نافذة أيها الأبله؟!

 لا تكثروا الأسئلة، فلا شيء أيها السادة يميّز نافذتي عن بقية النوافذ الأخرى في عيونكم، وربّما لو بحثتم عنها بين كل هذه النوافذ، فلن تتعرفوا عليها، هي نافذتي التي أحبّها، وأراها بعين المُحبّ العمياء، وما سألت نفسي يومًا لماذا أحببت نافذتي، فحينما يقع أحدنا في الحبّ لا يبحث عن السبب، لأنّه غارق في اللّذة، ولا يعنيه من الغرق سوى الرغبة في زيادة الغرق، مستمتع بالعذاب ولا يريحه سوى عذاب أكثر، لذلك لا أعرف ما الذي يعجبني فيها، فأنا لا أبحث عمّا يعجبني وما لا يعجبني، أنا أحبّها ولست معجبًا بها فقط، نعم أعترف لكم بملء فمي وبكلّ حبر قلمي، أحببتها، فالعلاقة بيني وبينها لا يمكن أن تكون إعجابًا متبادلًا فقط، إنّه حبّ، حبّ كبير، بل حبّ عظيم أيّها السادة، آه كيف أقول لكم أنّي أحبّ نافذة، فهل يُعتبر ذلك شيئًا من الجنون، الحماقة، الخبل...؟

لا أنتظر جوابًا.

*

        

أجلس في المقعد الخشبي الهزّاز بالقرب منها، أشعر بالدفء بعد الرعشة التي أصابت كل جسدي. تلتحف حبيبتي بستارة ملونة مزينة بالزهور، والتحف أنا بشال صوفي أهدتني إياه أمّي في زيارتي الأخيرة لها. أنتظر الحكاية التي ستخبرني عنها، لكنّ نافذتي ليست شهرزاد الحكايات ولست شهريار قاتل النساء، فأنا وهي نعيش ألف صباح وصباح، وقد يطول بي الصباح وأنا أنتظر حكاية واحدة منها أو نصف حكاية، فلا تقول شيئًا، فلا يضيق بي حالًا ولا أتبرّم.

أحيانًا أجلس بالساعات منتظرًا، واضعًا يدي الاثنتين على حوافها، لكن يطول صمتها ويطول بي الانتظار، وكي ترضيني وأنا المغمض العينين، تفتح نافذتي عيونها بكل اتّساعها على الشارع المقابل، لكنّ الشارع ساكن وهادئ. تخبرني أن عددًا بسيطًا من السيارات يمرّ فيه، وقليلًا من البشر يعبرونه أو يسيرون على رصيفه، وتخبرني عيونها أنّ شوارعنا ليست للمشاة، إنّها للسيارات فقط، والسيارات سرقت الحكايات كما سرقت البشر.

تهمس لي نافذتي إنّها ترى من بعيد عاملًا آسيويًا يقود دراجته الهوائية، مرتديًا قميصًا أصفرًا فسفوريًا فوق جاكيت صوفي أسود، يضع لثامًا من الصوف على وجهه. ثم تخبرني أن جارتنا العجوز عبرت الشارع وهي تحمل صحنًا من الخبز إلى بيت الجارة القريبة منّا. تخبرني عن الطائرة التي عبرت سطح بيتنا، وعن الطائر الغريب الذي وقف على حافتها ناقرًا زجاجها بقبلة عابرة. تخبرني عن غربة الجدران والبشر والبيوت، عن الصمت الذي يرتدي ثوب الضجيج في مدينتنا الغريبة، وأحدّثها عن غربتي وأنا الأعمى الضرير الذي أكتفى من الدنيا بما تراه هي بعينيها، أمسح على زجاجها وأهمس لها:

- أحتاج إليك، أحتاج إلى أن أكتبك أنتِ، فأنا قد اكتفيت بك عن الجميع، فأنت رفيقة عزلتي وصاحبة الحق في كل حكاية أكتبها، ولو كان بإمكاني منحك حق تدوين اسمك تحت كل قصة كتبتها لفعلت، ولكن سيكون غريبًا ومضحكًا أن أذيّل نصوصي بتوقيع نافذة، تضحك نافذتي، وأضحك.

*

تركت نافذتي ذات يوم، دون هجر، دون غدر، دون عذر، وحينما برح بي الشوق، وأضناني وجع الحنين، تلمّست دربي ذات شروق إليها، مددت إليها يدي معتذرًا وآسفًا ونادمًا، محاولًا لمسها، فلا أسمع لها آه ولا أنّه، أسمع صوت الريح في الخارج، أشعر بها وهي تضرب زجاج نافذتي بسياط من ثلج، يتشظّى زجاجها، تتسلل تيارات الهواء البارد من شقوق جراحها وشظاياها.

سياط من صقيع تجلّد روحي وأنا المنكسر الواقف أمام كسرها، ألملم شظاياها وتلملم هي بقايا الحكايات في شارعنا الغريب، وكلانا ينزف، كلانا يغادره الدفء، أقترب منها، أمدّ إليها يديّ كما هي عادتي، يجرحني زجاجها المكسور البارد كقطع ثلج، تنطفئ ناري ببرد جليدها، وأنا الأعمى الجريح الذي لم يبصر النور إلّا من نافذة واحدة أحبّها حتى الموت.

من بعيد يأتيني صوتها حنونًا:

- كيف حالك يا كل حالي؟

أخبرها:

- لقد نسيت النافذة مفتوحة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

امرأة من وداع

ثرثرة يسار