04-ديسمبر-2020

آلة قانون ( Getty)

حين ننظر إلى تاريخ الموسيقى عند الشّعوب، فإننا نرصد تاريخ الإبداع لا تاريخ الاتّباع. وبالتالي، فإن تاريخ الموسيقى في المجتمعات البشريّة، هو تاريخ صناعة "الذات" الإبداعيّة، عبر توفير المناخ.

تاريخ الموسيقى في المجتمعات البشريّة، هو تاريخ صناعة "الذات" الإبداعيّة، عبر توفير المناخ

وعندما نقول "المناخ"، فهذا يتضمّن الدّعم وشروط التلقّي والإصغاء إلى "الصّوت" الخاص، وتتبّع البصمة والتميّز والتّفرّد، فالتوثيق والترويج والتدريس والتداول والنقد. وعندما نقول "المناخ"، فإننا نتحدّث عن بيئة ثقافية تعدّدية مُنتجة، تتلاقى فيها الهُويّات والأرصدة الإبداعية المتراكمة، فتتفاوض، وتتخاصب، وتتفاعم، إلى أن تتشكّل من جديدٍ في تشبيكٍ يُعبّر عن طابع المرحلة وطبيعتها، وتطلّعاتها.

اقرأ/ي أيضًا: الموسيقى المستقلة.. تذاكر تنتمي إلى اقتصاد السوق

وهنا، نطرح سؤالًا: ما معنى أن تتثقاف "موسيقى" الفلسطيني، أو العربيّ، مع "موسيقى" اليهوديّ، أو الإسرائيليّ، وكيف؟ ونتساءل: ما معنى أن يبحث المُبدع "الفلسطينيّ" عن بصمته الخاصّة ضمن "التّفاعل التّبَعيّ" مع "الموسيقي/ المؤسسة الموسيقية" الإسرائيلية، التي تفتقد إلى هُويّة موسيقيّة أصيلة، ويقتصر نشاطها الموسيقي الكلاسيكي، بالدرجة الأولى، على "تداول" الموسيقى الكلاسيكيّة الغربية؟!

يكون، التفاوض (بحسب تعبير هومي بابا) بين مُبدعٍ وآخر، ضمنًا. فأيّ تفاوُضٍ بينيٍّ بين "خطابين" هو، إذًا، تفاوضٌ بين صانعَيْ هذين الخطابين، وهنا، إذًا، فالمعنيّ بالتفاوض، أولًا، هو المؤلّف، قبل الأداء، وقبل التلقّي، وقبل النقد. فعلى سبيل المثال، نتساءل: ما معنى "التثاقف" بين مُغنيّة فلسطينيّة تغني "شوبرت" الألماني مع عازف بيانو يهودي، يسعيان بدأبٍ إلى تنفيذ موسيقى شوبرت "على أفضل وجهٍ" بحسب معايير "المعلم" الغربي؟ على ماذا يجري التفاوض الثقافي هنا، في هذه الحالة محض الأدائيّة (أو التنفيذيّة)؟ بل كيف يُمكن لهذا الفعل "الوظيفيّ" أن يُنتج إبداعًا فريدًا، ولو كان على مستوى الأداء وحده؟

هنا، لا بدّ أن نقارن، ببساطة، بين "الأموال" التي تُرصد للإبداع المحلّي "اليهودي" داخل إسرائيل (ومصادرها متعددةجدًّا)، وبين حجم الدعم المالي من مُجمل ما تتحصّله الجمعيات التي تدّعي أنها "ترعى" الثقافة الموسيقيّة داخل المجتمع العربي الفلسطيني الذي يعيش على أرضه في "إسرائيل"؟ هذا المؤشّر وحده يكفي ليُعطينا فكرة عن طبيعة المشهد الذي نتناوله ونستكشفه.

لا يقتصر هذا التقصير على إهمال الجانب الإبداعي، والتباخل في حقّه، وتغييبه عن المشهد الموسيقي الموثّق. بل يمتدّ كذلك، إلى القطاع التجاري، الذي بات يستغل هذا الفراغ، ليملأه بتشويهٍ أكبر. فكيف يُمكن لمجتمعٍ يصرف الملايين على "تخريب" باليه عظيمة لتشايكوفسكي ككسارة البُندق، (كما حصل في مدينة الناصرة 2018)، وإهمال الصّرف على إنتاج باليه محلّي فلسطيني مثلًا؟ ولماذا لا تُصرف هذه الملايين على إنتاج باليه اسمه "رجال في الشمس مثلًا" أو "عائد إلى حيفا"، أو باليه فلسطيني أيًّا كان اسمه، لكنه يكون خطوة في طريق بناء الذات الثقافية موسيقيًّا، ونُخاطب به أنفسَنا والعالم والمُستقبل؟

وإن تحدثنا عن "التشوّه"، فإن التشوّه الموسيقي يبدأ من مرحلة التعليم والتأهيل، حيث تصرّ بعض المعاهد الموسيقية (وهنا أتحدث عمن يعنون بالموسيقى الكلاسيكيّة الجادة، لا الشعبية) على "استدعاء" "المُعلّم اليهودي الجيّد"، واستثناء الخبرات الناطقة بالعربية! عقدة الغريب هذه، تتسلّل بالوعي أو بدونه، إلى منظومة التعليم ذاتها؛ إلى جوهرها، وإلى خطابها الرمزيّ الملازم. ولا يتساءل أحد، لماذا يترك "اليهوديّ" الناجح "أضواءَه" ليُعلّم أطفالنا في الهوامش المُعتمة؟ ولماذا تتجاهل هذه المعاهد قُدرات أبنائها، وتحرم أطفالنا منها، في الوقت الذي يعترف الغرب نفسه بهذه القُدرات؟

لماذا تصرف الجمعيات الموسيقية العربية جزءًا كبيرًا من ميزانيتها الضئيلة على معلمين وعازفين يهود، لديهم مواردهم الخاصة، على حساب الكفاءات العربية المتوفرة؟

وبعيدًا عن التشوّهات التي تُحدثُها "اللغة الغريبة"، أثناء مسيرة التعلم، على أطفالنا، وبعيدًا عن تشوّهات الاتّصال الحسّي بين المعلم والطالب، فإن هذا النوع من التعليم، وبعد مرور سنين طويلة، أقولها بثقة العالم المتتبّع، لم يؤسّس إلا لـ "موسيقيين" وظيفيّين، تابعين، لا مُبدعين، باهتين ثقافيًّا لا بريق لهم ولا إنجازاتٍ حقيقيّةً أصيلة تُذكر

اقرأ/ي أيضًا: الألف أينما ارتمى.. الموسيقى برداء الشعر

لكن هذه "الجمعيات"، التي تحدثنا عنها، وبقدر ما تسعى، بطرقها، لنشر الثقافة الموسيقية الكلاسيكية الأوروبية داخل المجتمع العربي الفلسطيني في "إسرائيل"، فهي مطالبة على الإجابة عن عدد من الأسئلة الهامة، والتي يُفترض ألاّ تبقى بدون أجوبة.

أولًا: لماذا، ومنذ تأسيس هذه الجمعيات منذ تسعينيات القرن الماضي، تضاءل عدد الجمهور المهتم بهذه الموسيقى، بل وهناك حالة متزايدة من النفور منها، وبعد أن كانت قادرة على حشد الصالات الكبيرة، باتت عاجزة عن تجنيد أقرب الناس إلى هذه الثقافة؟

ثانيًا: وفي الشأن نفسه، هناك استثناءات نادرة، تم فيها عرض أعمال من إنتاج محليّ، غنائية وموسيقية، وكان الجمهور حاشدًا على نحو مفاجئ، فهل تعلمت هذه الجمعيات شيئًا من هذه الاستثناءات، واستخلصت منها النتائج؟ الجواب هو لا.

ثالثًا: أموال طائلة تُرصد من قبل وزارة الثقافة، وعبر جمعياتٍ ومؤسساتٍ يهودية، لدعم الموسيقى، على أنواعها، في المجتمع اليهودي، بينما حصة ضئيلة جدًا من هذه الميزانيات تُرصد للمجتمع العربي الفلسطيني (وهم من دافعي الضرائب بالتساوي). إذًا، لماذا تصرف الجمعيات الموسيقية العربية جزءًا كبيرًا من ميزانيتها الضئيلة على معلمين وعازفين يهود، لديهم مواردهم الخاصة، على حساب الكفاءات العربية المتوفرة؟

رابعًا: لماذا لا تعمل هذه الجمعيات على دعم التأليف الموسيقي المحلي وتحفيز الإبداع، والمساهمة في إنتاج "ربرتوار" (مخزون ثقافي موسيقي) خاص بالمجتمع الفلسطيني، لا من خلال عمل موسمي يخضع لضرورات التمويل، بل من خلال منهجية تراكمية فاعلة وواعية؟

خامسًا: لماذا لا تهتم هذه الجمعيات بالتوثيق المهني للكونسرتات التي تشتمل، في أقل تقدير، على نِتاجات خاصة وإبداعات محلية، فلا توثيق ولا أرشفة ولا تأريخ، وبالتالي لا مراكمة ولا تأثير ولا ترويج ولا بحث!؟

سادسًا: لماذا (في فترة الكورونا مثلًا، والتي يستعصي فيها إقامة الحفلات الموسيقية العامة) تُصرف الأموال على "توثيق" أعمال موسيقية عالمية (لديها من يرعاها)، لا ينقصها التوثيق، ومن خلال آداء لا يرقى إلى ما يبرر هذا النوع من الصّرف (والذي يذهب جزءٌ منه، مرة أخرى، على العازفين والتقنيين اليهود)، ولا تتركز الميزانيات، في فترة كهذه، على إنتاج أعمال أصيلة جديدة، تشكل رصيدًا لكونسرتات قادمة ومشاريع قادمة؟

لا أعرف تحت أي بندٍ ينبغي إدراج سياسة صرف الأموال التي تُصرف على طمس الثقافة الموسيقية الكلاسيكية الفلسطينية والعربية، وتهميشها، بل وتغييبها

ودعوني، هنا، أعطي مثالًا توضيحيًّا، عبر جمعيّة أورفيوس، وهي الجمعية الأكثر اهتمامًا بترويج ونشر الثقافة الموسيقية الكلاسيكية داخل المجتمع العربي في إسرائيل:

اقرأ/ي أيضًا: الموسيقى المستقلة في مصر: أثر لا يزول!

في عام 2020، عام الكورونا، وحيث لم يعد ممكنًا إقامة العروض المفتوحة بحضور الجمهور، قامت هذه الجمعية بصرف أموالها (أموال دافعي الضرائب المُتحصِّلة من وزارة الثقافة الإسرائيلية) على تسجيل أعمال موسيقيّة، بدلًا من صرفها على الكونسرتات.

طبعًا، سيُخيّل للقارئ أن هذه التسجيلات تصب في توثيق الإنتاج الموسيقي الكلاسيكي المحلّي، دعمه، ترويجه الخ...

لننظر إلى مضامين هذه التسجيلات، وعلى ماذا تُصرف أموال دافعي الضرائب:

أولًا: تسجيل أغاني بأداء نور دراوشه (سوبرانو) ويوناثان زاك (بيانو)، لأعمال موسيقية لكلٍّ من: هكتور برليوز، فرانز شوبرت، يُواخيم رودريجو، إيريك كورنجولد.

ثانيًا: تسجيل خماسية البيانو لجوهانس براهمس، بأداء غدي أبو سمعان (بيانو)، جاي فيغر وفراس مشعور (كمانات)، عدي طال (تشيللو)، شولي ووترمان (فيولا).

من حيث المؤلفين، جميعهم غرباء وأموات. ويصل عدد تسجيلات أعمالهم المنشورة إلى ملايين التسجيلات (معًا). بينما لا نجد مؤلِّفًا موسيقيًّا واحدًا حيًّا ومن أبناء بلادنا وهم كُثر (سافادور عرنيطة، أوغسطين لاما، باتريك لاما، نصري دويري، سمير التميمي، أمين ناصر، حبيب توما، منير أنسطاس، بشارة الخل، وسام جبران، يوسف سخنيني وآخرين. أو مؤلفين موسيقيين كلاسيكيين عرب: عطية شرارة، ناجي حكيم، بشارة الخوري، هُتاف خوري، عبدالله المصري، أحمد الصياد، جمال أبو الحسن، هبة القواس، بُشرى الترك، مارسيل خليفة، رامي خليفة، يانس المصري... وغيرهم كثر، وكلّهم أحياء)

من حيث العازفين: من بين الـ 7 أسماء المشاركة في تنفيذ هذه الأعمال، 3 عرب و4 يهود. والطرح هنا ليس عنصريًّا، ويجب ألا نميز بين الأعراق حين نعزف الموسيقى معًا، لكنني أتحدث عن عدد محترم من العازفين العرب الفلسطينيين الذين بالكاد يجدون فرص عمل، خاصة في زمن الكورونا، بينما هناك صناديق لا تُعد ولا تُحصى لدعم الآخرين.

لماذا التأكيد المستمر على "وجوب" الحضور "اليهودي" عند أداء وصناعة الموسيقى الكلاسيكية، وكأنه اعترافٌ ضمنيّ بأننا قاصرون وحدنا على النُّطق بلغة الإنسانيّة؟

لا أعرف تحت أي بندٍ ينبغي إدراج سياسة صرف الأموال التي تُصرف على طمس الثقافة الموسيقية الكلاسيكية الفلسطينية والعربية، وتهميشها، بل وتغييبها عن أي مشروع توثيقي وتوعوي، بدلًا من أن نكون السبّاقين في توثيق الإنتاج الموسيقي المحلّيّ الجادّ، والتأسيس إلى أرشيفٍ وتاريخٍ وثقافةٍ ومُستقبل!

اقرأ/ي أيضًا: سليم دادة.. زرع النوافذ في الموسيقى

سابعًا: لماذا التأكيد المستمر على "وجوب" الحضور "اليهودي" عند أداء وصناعة الموسيقى الكلاسيكية، وكأنه شرطٌ "حضاريّ" حتميّ، أو اعترافٌ ضمنيّ بأننا قاصرون وحدنا على النُّطق بلغة الإنسانيّة؟

ثامنًا: لماذا يتم تهميش الآلة الشرقية والمكونات المكانيّة وثقافتها، أو صوتها، من مشاريع هذه الجمعيات، في زمن، بات فيه لهذه الآلات حضورًا بارزًا في الكثير من المؤلفات الموسيقية "العربية" المكتوبة لتركيباتٍ آلية متنوعة، أو أوركسترات كلاسيكية في العالم؟

وأخيرًا، وبنوع من الإيجاز: لماذا الالتزام بالاتباع بدلًا من الإبداع، والاحتفاء بالدخيل بدلًا من الأصيل وتفضيل "العالمي" على ما هو "محلّي"، بدلًا من تعميق فهم التداخل المفهومي العامودي بينهما؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

جربة فاست.. جنة الموسيقى الإلكترونية

"المهرجانات".. في مدونة الموسيقى المصرية